الأحد، 13 أبريل 2008

فلسطين الأسيرة

الأربعاء,شباط 20, 2008
فلسطين الأسيرة
فلسطين الأسيرة
==========
د. كمال علاونه
دكتوراه علوم سياسية
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فُكُّوا الْعَانِيَ ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ " ، صحيح البخاري - (ج 16 / ص 164) .
أرض كنعان أو فلسطين الكبرى هي الأرض المباركة أو المقدسة التي باركها الله جل جلاله من فوق سبع سماوات طباقا ، وهي مهد الديانات السماوية ، وقبلة المسلمين الأولى ، وفيها ثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ، وأسرى وعرج الله جل جلاله ، في معجزة الإسراء والمعراج ، برسوله الكريم من أرضها الطاهرة من نواة المسجد الأقصى المبارك ، إلى السماوات العلى ، وفرض في ليلتها المباركة ثاني أركان الإسلام العظيم الخمسة وهي الصلاة كعمود للدين الإسلامي الحنيف . تبلغ مساحة فلسطين نحو 27 ألف كم2 ، ويقيم بها حاليا حوالي 3 ر 5 ملايين فلسطيني في العام الحالي 1429 هـ / 2008 م ، بالإضافة إلى عدد مماثل من يهود العالم الذين غزو المنطقة واستوطنوها وغزوها واحتلوها عنوة رغم معارضة أهلها الأصليين ، فأصبح الغرباء هم الآمرون الناهون في هذه البلاد العريقة . قبل ستة عقود زمنية ، في عام 1948 استولى يهود وصهاينة العالم الذين قدموا من 102 دولة ، على أكثر من 770 ر 20 كم2 ، بواقع مساحة قدرها 4 ر 77 % ، من ارض فلسطين التاريخية ، وانقسمت فلسطين بعد نكبة فلسطين القومية والإسلامية الكبرى إلى ثلاثة مناطق متباعدة ومتعارضة في الأنظمة والقوانين ، فاستولى اليهود الصهاينة على الجزء الأكبر من البلاد ، وألحق جزء أصغر من الجزء الأول بالأردن وهو ما يعرف بالضفة الغربية وهي المنطقة الوسطى الشرقية من فلسطين ، ومساحتها نحو 878 ر 5 كم 2 وأما الجزء الثالث الأصغر من الجزأين الأوليين فهو قطاع غزة الذي ألحق بالإدارة المصرية ومساحته 363 كم2 .
فبدأت المعاناة الشديدة الوطأة والمشكلة العويصة منذ يومئذ ، فلسطين توزعت على ثلاثة أنظمة سياسية متباينة ، والفلسطينيون من المهاجرين اللاجئين والنازحين والأنصار ، أصبحوا الشعب المعذب في الأرض ، ليس في أرض فلسطين المقدسة فحسب بل وفي العالم أجمع أيضا ، في المهاجر والشتات في مختلف أرجاء الكرة الأرضية ، فأضحى هذا الشعب المغلوب على أمره يلاقي المرارة والعذاب تلو العذاب ، ويمكن أن يكون هذا ابتلاء من الخالق جل جلاله ، وتهيئة جديدة لجيل مسلم جديد سيعبد الله في أرضه ، ويقيم دولة الخلافة الإسلامية وعاصمتها المسجد الأقصى المبارك . وإلى ذلك الحين ، عندما يحين الحين ، سنبقى صابرين مرابطين حتى يأتينا النصر المبين والخبر اليقين أو نعبد ربنا حتى يأتينا اليقين ونحن لله الواحد القهار راكعين وساجدين وعابدين ومسبحين ، لا يضرنا من خالفنا ولا يرهبنا كل إرهاب الدول الاستعمارية الغربية والشرقية من عتاة الإرهابيين . فللأقصى رب يحميه ، وللأرض المقدسة رب يحميها ، ولشعب فلسطين المرابط رب ينصره ويعينه ويقويه ويصبره على النوائب والمحن ، راجين من الله أن يبعد عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن .
على أي حال ، لقد عانى شعب فلسطين الأصيل في هذه البلاد المباركة الأمرين ، جراء تقسيم البلاد ، وتشتيت العباد بفعل الصهاينة الأوغاد ، فصار الفلسطيني أسير في وطنه ، وربما أسر ووضع في سجن أصغر في الزنازين والمعتقلات والسجون الصهيونية ، التي جربتها خمس مرات ، في شبابي وحياتي العنفوانية ، منذ كان طالبا في سنواتي الجامعية الأولى ، في جامعة النجاح الوطنية بنابلس – فلسطين ، وأثناء انتفاضة فلسطين الكبرى الأولى ، ثم منعت من مغادرة فلسطين ، موطني للدراسة في بلاد الأشقاء القريبين ، من دول الطوق للإلتقاء بأبناء الأمة الراشدين ، واستمر المنع لأربع عشرة سنة أعطوني خلالها هوية خضراء بدل البرتقالية كوني مغضوب علي من اليهود المغضوب عليهم عند رب العالمين بحجة التحريض ومناوأة المحتلين . فالسجن الكبير لفلسطين ، وفلسطين الأسيرة ضجت وتضج من المستعمرين الجدد من بني صهيون الأرذلين ، الذي عاثوا ويعيثون فساد وإفسادا في بلاد الآخرين . وقبل قيام السلطة الوطنية الفلسطينية ، في تموز 1994 كنا كمواطنين نتحرك بشكل أكثر سهولة في ربوع بلادنا فلسطين ، أرض الآباء والأجداد الطيبين ، فنتوجه من مدن الضفة الغربية أو قطاع غزة ، للداخل الفلسطيني ، فنزور القدس وعكا وحيفا ويافا وطبريا وبئر السبع وصفد وغيرها من أشلاء المدن الفلسطينية الباقية رغم كيد الكائدين والمتآمرين ، وكنا نذهب للصلاة بالمسجد الأقصى المبارك الحزين ، لقد كنا نشد الرحال لهذا المسجد المقدس للمسلمين ، الذي قدسه رب العالمين ، ندعو ونصلي ونصلي راكعين وساجدين منتظرين الفرج والفتح المبين ، على أيد المهدي المنتظر ونعود من العائدين المسلمين لديارهم أو ننال إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة ، فنكون من الخالدين ، الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون . وكنت أصلى واركع وأسجد في صلوات مكتوبة وسنة لرب العباد في الأولين والآخرين ، طالبا رجائي من المولى عز وجل لأكون لديه من الأولياء والصالحين المقربين ، وأهدي ثواب الصلاة للنبي المصطفى والصحابة الأخيار والخيرين ، من أمثال الفاروق عمر سيد الفاتحين لبيت المقدس ضد المحتلين الرومان لبلاد المسلمين وصلاح الدين الأيوبي بطل المسلمين بمعركة حطين ضد الغزاة الصليبيين ، وسيف الدين قطر قائد معركة عين جالوت المنتصر في المعركة ضد التتار والمغول الهمجيين المتوحشين .
ولكن في هذه الأيام والخالية يا أيها الأخوة الطيبين لم نتمكن من التنقل بين المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بفعل الحواجز العسكرية الصهيونية الطارئة والثابتة للثابتين في الأرض المباركة غير المغادرين فهذا اعتداء على حرية التنقل للقادمين والمغادرين . فنصل لعملنا ومؤسساتنا ومدارسنا وجامعتنا ومنشآتنا في المناطق الفلسطينية الأخرى متعبين ومتأخرين جراء الانتظار على حواجز الأعداء الغاوين من الصهاينة المستوردين ، ولم ولن نتمكن من الولوج للمسجد الأقصى المبارك لنكون من العابدين وقد نصل للمكان المقدس بعد أن يرهقنا اللف والدوران عدة ساعات بدل ساعة واحدة خلف الحواجز الصهيونية والطيارة والمقيمة على مداخل المحافظات الفلسطينية وتتصب على جباهنا وأجسامنا حبات العرق الندى ونحن حتى في فصل الشتاء والكوانين وتظهر علينا علامات التعب المهين . ولكننا بقينا ونبقى وسنبقى صامدين مرابطين في أرضنا الطاهرة رغم تدنيس النجس المخربين الإرهابيين .
وعودة على البدء ، أيها الأصدقاء والأخوة النشامى القارئين ، أصبحت فلسطين أسيرة باضطراد ، وكأنها ذات مدن وواحات متباعدة وليست متحدة والمفاوضات الثنائية الفلسطينية – الصهيونية ، صارت وتصير وستصير من العبث اللهث خلفها ، لأن اليهودية الصهيونية في فلسطين تسوف وتماطل وليس لديها مواعيد مقدسة كما وصفها الله عز وجل في القرآن المبين : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} ( البقرة ) . ولا بد من القول ، إن نحو 3 ر1 مليون فلسطيني في الجليل والمثلث والنقب والساحل ، ونحو 5 ر 2 مليون فلسطيني في الضفة الغربية ، وحوالي 5 ر 1 مليون فلسطيني في قطاع غزة إضافة لنحو 5 ملايين في خارج البلاد المقدسة ، عن بعضهم متباعدين ، فلا زيارات ولا دراسة للأبناء ولا تبادل تجاري ولا سفر للعلاج إلا بإذن المحتلين الغاصبين ، الذين كثيرا ما يغلقوا الحدود ويعلنوا الإغلاق العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي اللعين ، ويمزقوا فلسطين شر تمزيق لأنهم من الممزقين . فحياة المسلم الفلسطيني بمثابة جحيم الدنيا يا أيها المجاهدين ، فصدق فيهم قول النبي العربي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال قبل مئات السنين ، كما جاء بصحيح مسلم - (ج 14 / ص 205) : " الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ " .وفي حديث نبوي طاهر مبارك آخر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ " ، مسند أحمد - (ج 14 / ص 98) . فطوبى للصابرين المرابطين من الطيبات والطيبين أبناء فلسطين الخالدين ابد الدهر في الجهاد والمجاهدة ولو كره المجرمون من بني صهيون .
وعلى الجانب الآخر ، هناك بشرى إسلامية نبوية ، من رسول الله الأمين ، المبعوث رحمة للعالمين ، لأسرى فلسطين الكبرى ، من الطائفة المنصورة ، ليكونوا في أعلى عليين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أحاديثه الصادقة الوعد والوجدان والطهارة أبد الآبدين : " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ " ، صحيح مسلم - (ج 1 / ص 373) . وفي حديث نبوي آخر ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " ، مسند أحمد - (ج 45 / ص 281) .
وأخيرا ، في ظل التمزيق الدقيق وغير الدقيق ، لفلسطين الأبية واستمرار اشتعال الحريق ، بين الغرباء الطارئين ، وأبناء فلسطين الأصليين ، نرجو الله العزيز القهار أن يقهر الطغاة العتاة ، والصهاينة الحاقدين ، ولا ننسى من الدعاء على المتأسرلين ، الذين يبيعون عرض الحياة الدنيا ببضع شواقل ودولارات بخسة ، مبتعدين عن إنقاد أسرى فلسطين في كل أرجاء فلسطين ، من بحرها لنهرها ، غير آبهين ، بل يسعون لتقزيم البلاد حسب ما يراه ويؤكده الجلادين المتأمركين . ولا نملك إلا أن نقول ، لأهلنا وأحبتنا وأصدقائنا ، في الوطن والمهاجر والشتات ، على السواء ، سواء بسواء ، من المهاجرين والأنصار ، ابقوا على الحق الإسلامي متمسكين وفكوا أصفاد أسرى فلسطين ، وأصفاد فلسطين الأسيرة ، من غياهب السجون الصهيونية الاستعمارية ، ولا تخذلونا في الأرض المباركة يا أيها المؤمنين بالله ربا وبالإسلام دينا وبالنبي العربي المصطفى نبيا ورسولا ، فكونوا من الصالحين والمتقين والمحسنين . ونذكركم بالقول النبوي الخالد في عقل المسلمين الحقيقيين ، المجاهدين والمجالدين للأعداء المهووسين ، كما ورد بصحيح البخاري - (ج 10 / ص 257) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُكُّوا الْعَانِيَ يَعْنِي الْأَسِيرَ ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ " .
وندعو بهذا الدعاء الأخير قبل الوداع في هذا المقال الرصين ، كما قال النبي نوح عليه السلام في الأولين والآخرين ، بالسورة القرآنية المجيدة الكريمة التي تحمل اسمه ، كما ورد بالقرآن المبين ولو كره الكافرون والفاسقون والظالمون والمتشدقون : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) } .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات: