الأحد، 13 أبريل 2008

ذكرى الهجرة النبوية .. والتحديات الراهنة 1429 هـ/2008 ( 1 - 2 )

الأربعاء,شباط 20, 2008
ذكرى الهجرة النبوية .. والتحديات الراهنة 1429هـ / 2008 م ( 1 - 2 )
ذكرى الهجرة النبوية .. والتحديات الراهنة
1429 هـ/2008
( 1 - 2 )
د. كمال علاونهأستاذ العلوم السياسية - فلسطين
الحمد لله رب العالمين ذو الشأن العظيم الذي نصر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعلى كلمة الحق والدين ، وهزم الشرك والمشركين ، والصلاة والسلام على إمام المتقين النبي العربي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، فالسلام عليك يا رسول الله يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً ، وبعد ،
أيها الأخوة والأخوات الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أهلا ومرحبا بكم في ظلال ذكرى ثورية إسلامية خالدة وهي هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حيث كانت البداية والنواة لنشر الإسلام العظيم في الجزيرة العربية والعالم أجمع .
أولا : الإعداد للهجرة النبوية الشريفة
الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ذكرى عطرة تفوح منها ذكريات الإسلام العظيم الذي يتصدى للطغاة والكافرين ، لهداية الناس أجمعين لدروب الخير والصلاح والابتعاد عن الضلال المبين ، والانتقال بهم من العمى إلى الهدى ، تلك ذكرى محفورة في الذاكرة الجماعية للأمة الإسلامية ، كما يقول الله تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} ( القرآن المجيد ، سورة آل عمران ، 110 ) . هجرة نبوية بإيحاء إلهي ، أنارت شعلة الإسلام الأولى دياجير الظلام في شبه الجزيرة العربية والعالم أجمع وأضاء سنا برقه سنابل ومشاعل إيمانية تهدي إلى الطريق القويم لمن أراد أن يستقيم ويلجأ إلى الدين ليكون له نورا من فوقه ومن تحته وعن يمينه وشماله وإيمان يستقر في فؤاده وقلبه ولسانه ليصبح ذاكرا رطبا بالفطرة الإسلامية الدنيوية والأخروية . شعلة تنير درب السالكين الداعين إلى الثورة الإسلامية الجامعة والخلاص من الوثنية والبدء بالحنفية على درب رسالة التوحيد الإلهية الحقيقية لتحقيق المصلحة العالمية العليا .
عام هجري ينبثق في الأول من الشهر العربي القمري محرم ، فهلال المحرم قد هل على فلسطين وعلى الأمة العربية وعلى الأمة الإسلامية بعامة معلنا عن بدء العام الهجري الجديد 1429 ، إنها ذكرى مباركة تذكر الإنسان المسلم ببداية النشأة الأولى للدعوة الإسلامية الحقيقية وانطلاقتها من بؤرة ونواة المدينة المنورة في الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنا وتسعة وعشرين عاما .. إنها الانطلاقة الإيمانية الإسلامية نحو العزة والكرامة .. إنه بداية الانطلاقة الإسلامية بعد الاضطهاد الجاهلي للإسلام والمسلمين من قبل المشركين ومحاولة فرض الحصار الشامل على المسلمين الأوائل فجاءت الهجرة لإنقاذ هذه الثلة من أتباع وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفرغ لنشر الإسلام بعد ثلاثة عشر عاما من الملاحقة والقمع لأتباع هذا الدين الحنيف من الدعوة الثورية السرية ، وهذه الرسالة الإسلامية الخالدة ، فكان الأمر يسرا بعد عسرا لأنه { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}( القرآن المجيد ، الشرح ، 5 – 8 ) ، إنه انتقال من مرحلة التآمر الدنيء ومحاولة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة القوة والصلابة الإسلامية .. ولكن مكر المشركين يذهب أدراج الرياح والعواصف الإسلامية التي هبت على المنطقة { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} ( القرآن المجيد : سورة الأنفال ، 30 ) . فقد أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله بالهجرة والابتعاد عن القوم الكافرين ، فجاءت الهجرة إلى المدينة المنورة وكان الإيمان والثقة والاطمئنان بحتمية النصر ، كما جاء في القرآن المجيد : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) }( القرآن المجيد ، سورة البقرة 38 ) .
فلم تكن الهجرة لنقل الناس من الظلام إلى النور ومن الظلم إلى العدالة والمساواة الشاملة فحسب بل إنها إرتقاء بالذات الإنسانية من عبودية الإنسان للإنسان إلى عبودية الإنسان للخالق جل جلاله ، إنها الزهد في الحياة الدنيا من المال والأهل والولد وابتغاء لمرضاة الله سبحانه وتعالى في أوضح صورة من صور الهجرة في سبيل الله ومقاومة الظلم والطغيان والباطل بقوة الحق . فهاهو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يرفض عروض قبيلته قريش من المال والجاه والوجاهة والتزويج مقابل ترك الدعوة الإسلامية والإصرار والثبات على المبدأ الحق .. إنه نور اليقين وقوة العقيدة والتمسك بالعروة الوثقى وهي عروة الإسلام .. إنها الهجرة والخروج من أجل الإصلاح والبناء الحضاري وإعداد العدة للعودة والانطلاق من جديد لفتح مكة المكرمة والقضاء على ملة الكفر والكافرين مستلهمين قول البارئ عز وجل :{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} ( القرآن المجيد ، سورة الأنفال ، 60 ) .ولقد تداعى المشركون للبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقتربوا من غار ثور ، فيقول أبو بكر الصديق رفيق رسول الله في رحلة الهجرة : " والله يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا ، فيقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر لا تخف ، يا أبا بكر لا تحزن ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما . وقال الله سبحانه وتعالى عن ذلك في القرآن العزيز : { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} ( القرآن المجيد : سورة التوبة 40 ) .
ثانيا : انطلاق فكرة الهجرة النبوية الخالدة
جاءت فكرة الهجرة النبوية بقرار رباني بعدما اشتدت ملاحقة المشركين بمكة المكرمة للنبي المصطفى وأتباعه الذين آمنوا بالدعوة الإسلامية الجديدة التي قلبت القيم والعادات والتقاليد القرشية والعربية الجاهلية الأخرى رأسا على عقب ، فظهرت المؤامرة الجلية لقتل المصطفى صلى الله عليه وسلم من قبل سفهاء الكفار . وكان النبي الأمي وصحبه يعدون العدة للهجرة الجبرية خوفا على الدعوة الإسلامية وعلى أنفسهم من الهلاك والتعذيب الجسدي الشديد ، وتزايد عدد المسلمين الذين تركوا دين آباءهم وأجدادهم المتمثلة بعبادة الأوثان ، ولما تضاعف عدد المؤمنين بالدعوة الإيمانية الجديدة اشتدت وطأة الملاحقات والمطاردات للداعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وغيره ، فأمر الرسول الكريم بعض أتباعه بالهجرة إلى خارج مكة المكرمة ، فبعضهم هاجر للحبشة والبعض الآخر هاجر وسبقه للمدينة المنورة وبقي ينتظر البلاغ الإلهي عبر جبريل عليه السلام للانتقال من مكة إلى يثرب .
جاء بصحيح البخاري - (ج 12 / ص 294) َقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ : إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ . وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي ، أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ ، وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي ، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ ! قَالَتْ : فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِالثَّمَنِ . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ . قَالَتْ : ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ . وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ . وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ .
على أي حال ، بعدما أذن الله سبحانه وتعالى للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بنذير الحرب بايعه بعض الأنصار على إتباع الإسلام ونصرة دين الله القويم ، دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بمكة للخروج إلى يثرب والهجرة إليها فاستصعب البعض الأمر ، إذ كيف يتركون أموالهم وأولادهم وعشيرتهم ثم قبلوا الامتثال للأمر الإلهي العظيم ، قال الله تعالى : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } ( القرآن المجيد ، سورة الأنفال ، 5 ) . وقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام : " إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا وداراً تأمنون بها " ، فخرج المسلمون أفواجا وجماعات وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة منتظرا الإذن الإلهي من الله العزيز الحكيم للهجرة من مكة إلى يثرب .
وقد جاءت فكرة الهجرة الإسلامية من مكة المكرمة إلى يثرب أو المدينة المنورة كما أطلق عليها فيما بعد بسبب إيذاء قريش للمسلمين بعامة ومحاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بخاصة ، فعندما رأت قريش أن رسول الله قد صارت له جماعة وأصحاب في يثرب وشاهدوا خروج أصحابه أخذوا يتشاورون لإيذائه ، فاجتمعوا في ( دار الندوة ) في يوم يسمى ( يوم الزحمة ) فاقترحوا عدة اقتراحات للنيل من المصطفى صلى الله عليه وسلم منها حبس الرسول الكريم في الحديد وإغلاق الأبواب عليه ، واقترح رأي آخر بأن يتم إخراجه من بين أظهر قريش ونفيه خارج مكة المكرمة . وجاء الاقتراح الأخير الذي قدمه أبو جهل لعنه الله وأجمع عليه الحضور آنذاك وهو أن يتم ( الأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا شريفا في قريش ) وان يعطوا كل فتى سيفا صارما لضرب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد وقتله ليتفرق دمه في القبائل كافة .
ثالثا : تداعيات الهجرة النبوية
عند حبكت قبيلة قريش المؤامرة وأرادت إذلال النبي العربي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فجاء جبريل عليه السلام أمين سر السماء ، مبلغ الرسالة الإسلامية من الله رب العزة سبحانه وتعالى إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابلغ رسول الله وقال له " لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت فيه " طالبا وناهيا وآمرا للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، فلما جن الليل إجتمع هؤلاء الزمرة من الشباب المشركين الذين حشدوا للكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا يرصدون موعد نومه للانقضاض عليه ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر قال لعلي ابن أبي طالب كرم الله وجهه : " نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم " ، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام .. إنها الفداء والتضحية من الشاب علي ابن أبي طالب للقائد المسلم الأول . جاء في سنن الترمذي - (ج 12 / ص 434) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ ، فَقَالَ : " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " . وفي رواية أخرى ، بمسند أحمد - (ج 38 / ص 156) أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ مِنْ مَكَّةَ ، يَقُولُ لِمَكَّةَ : " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَأَخْيَرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" . وفي رواية ثالثة ، وردت بمسند أحمد - (ج 38 / ص 157) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ : " عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ ، مَا خَرَجْتُ " . فالخروج النبوي الشريف من مكة كان بسبب القهر والظلم والمكائد والرغبة القرشية الكافرة الجامحة بقتل المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يحب مسقط رأسه مكة المكرمة .
رابعا : كيفية تنفيذ الهجرة النبوية
على الأغلب في عام 622 م ، الموافق العام الهجري الأول في التاريخ الإسلامي ، بعد معجزة الإسراء والمعراج بعام واحد ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الزمرة الفاسدة المفسدة التي تعيث في الأرض فسادا وإفسادا ، من الكفار والمشركين التي تتربص به السوء فأخذ حفنة من تراب في يده الشريفة ثم قال : أنا أقول إنكم إن اتبعتموني كنتم ملوك العرب والعجم ، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان الأردن ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها ، فأخذ ينثر التراب على رؤوس المتربصين له وهو يتلو بضع آيات من سورة يس : { بسم الله الرحمن الرحيم : يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} ( القرآن المجيد ، سورة يس ، 1- 9 ) وجعل يردد الآية الأخيرة عدة مرات { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }. وجاء في الخبر الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ فَقَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ . وإثر ذلك لم يبق منهم رجل إلا وقد وضع تراباً على رأسه ، فمر بالقوم الكائدين المجتمعين رجل وقال : ما تنتظرون ها هنا ! قد والله خرج عليكم محمد ، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً ، وإنطلق لحاجته ، أفما ترون ما بكم ؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ، ثم نظروا فوجدوا شخصا نائماً في الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخضر ، فكذبوا هذا الرجل الذي بلغهم أنه رأى المصطفى خارجا من بيته الكريم الصغير ، فقالوا : والله إن هذا لمحمد نائماً ، عليه برده أو غطاؤه فلم يزالوا على ذلك حتى الصباح فنهض علي كرم الله وجهه عن الفراش ، فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهلوا من المفاجأة . وكان رسول الله ( ص ) أمر علي ابن أبي طالب أن يبقى بمكة لتسليم الودائع لأصحابها فيمكث ثلاثة أيام بلياليها يوزع هذه الودائع . نعم لقد كفى الله رسوله الكفار السفهاء من قريش الذين حاولوا ثنيه عن دعوة الإسلام العظيم كطريقة للتغيير والإصلاح الرباني للمجتمع العربي المشتت آنذاك .
خامسا : جائزة كبرى ( مائة ناقة )
لمن يقبض على النبي المطارد من الكفار
وإمعانا في المطاردة والملاحقة الساخنة الشيطانية لقائد الثورة الإسلامية الشاملة ، جرى تخصيص جائزة عظيمة في حسابات ذلك الزمان ، وأما بشأن هذه الجائزة العينية الكبرى المخصصة للقبض على المطارد الإسلامي الأول في العالم آنذاك ، من قوى الظلام والجاهلية الأولى ، والمقصود به حبيب الله عز وجل ورسوله الأمين المبعوث رحمة للبشرية جمعاء ، محمد صلى الله عليه وسلم ، قال سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة المنورة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم ، إذ خصصت جائزة لمن يأسره أو يقتله هو وصديقه أبو بكر الصديق .ولكن كافة المشركين عجزوا عن أسره أو قتله وحده أو مع صاحبه لأن المؤامرة لم تنجح بقدره الله وجبروته الذي حماهما بحمايته الربانية التي لا يقدر عليها إنس ولا جان .
وذكرت عائشة زوجة الرسول رضي الله عنها ( فيما بعد ) : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه ، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها ، فلما رآه أبو بكر قال : ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأمر حدث ! فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرج عني من عندك ! فقال : يا رسول الله ، إنما هما ابنتاي ، وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي ؟ فقال : إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة ، فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؟ قال : الصحبة ، قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ثم قال : يا نبي الله ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا ، فاستأجرا عبد الله بن أرقط ، وكان مشركا ، يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما المضروب للسفر والخروج من حمى الوطن إلى رحب أوسع وأكثر استجابة للدعوة الإسلامية الحقة ، إنه الانتقال إلى مدينة الشعاع النوراني العظيم .
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مع أبي بكر الصديق ثم عمدا إلى غار بثور فأقاما ثلاثة أيام للاختفاء عن أعين قريش ، وأعلنت قريش عن جائزة كبرى ( مائة ناقة ) لمن يدلهم عليه أو يرده عليهم ، وكان عبد الله ابن أبي بكر يزودهم بأخبار قريش فيما يأتمرون بخصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يرعى غنم أبي بكر فإذا جاء المساء أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة المكرمة ، أتبع عامر بين فهيرة أثره بالغنم حتى لا يعرف أحد أثره . وبهذا نستشف أن الحرب خدعة ، وإن الحذر والحيطة واجبتان للبعد عن أعين الأعداء المتربصين السوء بالرسول الكريم .
سادسا : المطاردة الساخنة للمصطفى المهاجر
أورد صحيح البخاري - (ج 11 / ص 485) عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا فَقَالَ : " مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ". وعن اختيار يثرب للهجرة النبوية ، جاء بصحيح البخاري - (ج 12 / ص 285) َقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ " . على العموم ، إن الله جل جلاله حفظ النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه الحفظ التام ، كيف لا وهو متأكد من ذلك حيث كان يقول ، كما جاء بسنن الترمذي - (ج 9 / ص 56) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ : يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" .
وبعد مضي ثلاثة أيام وسكن الناس ، وملوا ويأسوا وزهقوا من البحث عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، أتاهما صاحبهما الذي إستأجراه ببعيريهما وبعير له وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما أو بطعامهما ونسيت أن تجعل رباطا ، فشقت نطاقها فجعلته عصاما أو رباطا ثم علقت المتاع بهما ، فسميت ( ذات النطاقين ) علقت السفرة بنطاق وانتطقت بالنطاق الثاني . وهذا أيضا يدلل على مدى ثقة القيادة بالأتباع والتخفى عن بطش الأعداء بقدرة الله العزيز الحكيم ، وتضحية الموالين للقيادة ، إذ كيف تقسم الفتاة المؤمنة رباطها نصفين : نصف لها ونصف آخر لربط المتاع ، إنها التضحية والفداء الأكيد .
وعندما قرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال : إركب فداك أبي وأمي ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا اركب بعيراً ليس لي ، ثم قال : فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ! قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتهما به ؟ قال : كذا وكذا ، قال قد أخذتها به ، قال : هما لك يا رسول الله ، فركبا وانطلقا على بركة الله بحماية الله ورعايته سبحانه وتعالى .
سابعا : سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ
وإبتغاء الجائزة الكبرى
يروي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ ، صاحب سواري كسرى ، وهو ملك الفرس ، رواية خاصة عن محاولته نيل جائزة قريش العظيمة لقاء أسر أو قتل النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وصديقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وفشله في ذلك ، وطلبه الرحمة والدعاء من النبي الكريم عندما غاصت قدما فرسه بالرمال أثناء السير والملاحقة لحصد الجائزة الذهبية الكبرى ، فهو يطلب الغوث من المطاردين رسول الله وأبو بكر الصديق ، فالله أكبر ، إن دعاء المظلومين مجاب فورا ، وسراقة لاحقا يصبح فيما بعد من صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وراويا للحديث النبوي الشريف . وهاكم هذه الرواية كما ورد في صحيح البخاري - (ج 12 / ص 294) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ : جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ : يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ . قَالَ سُرَاقَةُ : فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا ، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي ، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا ؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ ! فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي ، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ ، فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ ! وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ أَخْفِ عَنَّا ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ ، فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ . فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ ؟ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا . فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ . فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ : هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا ، فَقَالَا : لَا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا . وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ : هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ، هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ . وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ، فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ ، فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي .
وفي مسند أحمد - (ج 1 / ص 6) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ سَرْجًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ مُرْ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى مَنْزِلِي : فَقَالَ : لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ مَعَهُ ، قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : خَرَجْنَا فَأَدْلَجْنَا فَأَحْثَثْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ فَضَرَبْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى ظِلًّا نَأْوِي إِلَيْهِ فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَإِذَا بَقِيَّةُ ظِلِّهَا فَسَوَّيْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً ، وَقُلْتُ اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَاضْطَجَعَ . ثُمَّ خَرَجْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى أَحَدًا مِنْ الطَّلَبِ ! فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ ، فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ : هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ قُلْتُ : هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ فَأَمَرْتُهُ ، فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْهَا ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ كَفَّيْهِ مِنْ الْغُبَارِ ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ ، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ اللَّبَنِ ، فَصَبَبْتُ يَعْنِي الْمَاءَ عَلَى الْقَدَحِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ . ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ : اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ . ثُمَّ قُلْتُ هَلْ أَنَى الرَّحِيلُ ؟ قَالَ : فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا ؟ فَقَالَ : لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا ؟ وَبَكَيْتُ ، قَالَ لِمَ تَبْكِي ؟ قَالَ قُلْتُ : أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ . قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ . فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ وَوَثَبَ عَنْهَا . وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ ؟ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنْ الطَّلَبِ ؟ وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا ، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا ، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا ! قَالَ وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأُطْلِقَ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ . وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ فَخَرَجُوا فِي الطَّرِيقِ وَعَلَى الْأَجَاجِيرِ ، فَاشْتَدَّ الْخَدَمُ وَالصِّبْيَانُ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، جَاءَ مُحَمَّدٌ ، قَالَ وَتَنَازَعَ الْقَوْمُ : أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ ؟ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا حَيْثُ أُمِرَ ، قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : أَوَّلُ مَنْ كَانَ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى أَخُو بَنِي فِهْرٍ ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا . فَقُلْنَا مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هُوَ عَلَى أَثَرِي . ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ . قَالَ الْبَرَاءُ : وَلَمْ يَقْدَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَفِظْتُ سُوَرًا مِنْ الْمُفَصَّلِ " .
وقيل جاء في الكتاب لسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ ارجع ولك سواري كسرى ، كجائزة كبرى له أفضل من المائة ناقة التي رصدها المشركون للإمساك بالمصطفى صلى الله عليه وسلم . وقد أعطيت له فعلا زمن خلافة عمر بن الخطاب فقبلها ثم ردها لبيت مال المسلمين .
وفي صحيح البخاري - (ج 11 / ص 447) قال الْبَرَاءُ بْنَ عَازِبٍ : جَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا فَقَالَ لِعَازِبٍ ابْعَثْ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي قَالَ فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ فَقَالَ لَهُ أَبِي يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنْ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ . وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ ، وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً ، وَقُلْتُ : نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ . فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا ! فَقُلْتُ لَهُ : لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ ؟ قُلْتُ : أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْتُ : أَفَتَحْلُبُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَخَذَ شَاةً ، فَقُلْتُ : انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى ؟ قَالَ : فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ، يَنْفُضُ فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَوِي مِنْهَا يَشْرَبُ ، وَيَتَوَضَّأُ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ . فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ مِنْ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ، فَقُلْتُ : اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ ، قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ فَارْتَحَلْنَا ، بَعْدَمَا مَالَتْ الشَّمْسُ . وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ ، فَقُلْتُ : أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فِي جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ ، شَكَّ زُهَيْرٌ ، فَقَالَ إِنِّي أُرَاكُمَا ، قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ ، فَادْعُوَا لِي ! فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَجَا فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ : قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا ، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ قَالَ وَوَفَى لَنَا .
وفي صحيح مسلم - (ج 14 / ص 297) قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلًا فَقَالَ لِعَازِبٍ ابْعَثْ مَعِيَ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي إِلَى مَنْزِلِي فَقَالَ لِي أَبِي احْمِلْهُ فَحَمَلْتُهُ وَخَرَجَ أَبِي مَعَهُ يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ فَقَالَ لَهُ أَبِي يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا لَيْلَةَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ، وَخَلَا الطَّرِيقُ فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلِّهَا ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً ثُمَّ قُلْتُ نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قُلْتُ أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ أَفَتَحْلُبُ لِي قَالَ نَعَمْ فَأَخَذَ شَاةً فَقُلْتُ لَهُ انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَى قَالَ فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى الْأُخْرَى يَنْفُضُ فَحَلَبَ لِي فِي قَعْبٍ مَعَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ قَالَ وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ قَالَ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قَالَ أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ قُلْتُ بَلَى قَالَ فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُتِينَا فَقَالَ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فَقَالَ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَا فَرَجَعَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَاهُنَا فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ قَالَ وَوَفَى لَنَا . وعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَبِي رَحْلًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسَاقَ الْحَدِيثَ ... وقَالَ فِي حَدِيثِهِ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ فَلَمَّا دَنَا دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَ فَرَسُهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهِ وَوَثَبَ عَنْهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ وَلَكَ عَلَيَّ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ سَهْمًا مِنْهَا فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي وَغِلْمَانِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنَادُونَ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
ثامنا : النجاة النبوية والاستقبال الحافل في يثرب
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم قباء قرب المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين وقت الضحى ، وكان عمره يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة ، أي بعد أن مكث في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الإسلام سراً وعلانية . وفي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة نستذكر النشيد الإسلامي الوديع البسيط الذي استقبل به ثلة من الأنصار للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، الخارج من بلده مكة المكرمة بسبب الدسائس والمؤامرات التي حاكها ضده المشركون في عاصمة القدسية الإسلامية الأولى منذ بناء المسجد الحرام . وهذا النشيد له معان وعبر وعظات تتكرر عبر التاريخ الإسلامي :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرب واستقبله الأنصار ، وبركت الناقة عند دار بني مالك النجار ، وهو باب مسجده صلى الله عليه وسلم ( اليوم ) وكان مربدا ، أي مكانا لتجفيف التمر ، لغلامين يتيمين في المدينة من بني النجار ، فحمل أبو أيوب ، خالد بن يزيد أمتعة الرسول صلى الله عليه وسلم فوضعها في بيته وتم إرضاء اليتيمين مقابل ذلك بالمال ، فبنى المسجد النبوي هناك . وكان المسلمون وهم يبنون المسجد ينشدون : ( لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم إرحم الأنصار والمهاجرة ) فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم إرحم المهاجرين والأنصار ) وبهذا فان الله سبحانه وتعالى أنزل رسوله منزلا مباركاً وأدخله مدخل صدق وأخرجه مخرج صدق وجعل له من لدنه سلطاناً نصيراً .
تاسعا : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
لرد الجميل والإحسان لمواطني يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج ، اللتان استقبلتا المصطفى المهاجر أحسن استقبال ، دعا له للمدينة بالبركة الجامعة الشاملة في كل شيء ، وهذا ما يلمسه الإنسان حتى في أيامنا هذه . فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بعد ذلك كما ورد بصحيح مسلم - (ج 7 / ص 96) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ " . وفي مسند أحمد - (ج 2 / ص 398) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْحَرَّةِ بِالسُّقْيَا الَّتِي كَانَتْ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ائْتُونِي بِوَضُوءٍ ؟ فَلَمَّا تَوَضَّأَ ، قَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ دَعَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَيْ مَا بَارَكْتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ " . وفي مسند أحمد - (ج 4 / ص 17) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَدِينَتِهِمْ ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ . اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، كَمَا سَأَلَكَ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ . إِنَّ الْمَدِينَةَ مُشَبَّكَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ " . وفي مسند أحمد - (ج 17 / ص 65) أيضا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَدِينَتِهِمْ ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ . اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، كَمَا سَأَلَكَ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، إِنَّ الْمَدِينَةَ مُشْتَبِكَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ فَمَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ " . ورواية أخرى وردت في مسند أحمد - (ج 46 / ص 121)عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى بِأَرْضِ سَعْدٍ بِأَصْلِ الْحَرَّةِ عِنْدَ بُيُوتِ السُّقْيَا ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ ، وَعَبْدَكَ وَنَبِيَّكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَرَسُولُكَ ، أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، مِثْلَ مَا دَعَاكَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ . نَدْعُوكَ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَثِمَارِهِمْ . اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِخُمٍّ ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرَّمْتَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمَ " . كما جاء بصحيح البخاري - (ج 12 / ص 160) خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ : أَيُّهَا النَّاسُ ، فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ ، وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ " .
عاشرا : أول خطبة لرسول الله ( ص ) في يثرب
كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بدأ فيها بحمد الله سبحانه وتعالى والثناء عليه ثم قال : " أما بعد ، أيها الناس ، فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك ، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك ؟ فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمينا وشمالا ، فلا يرى شيئا ؟ ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " . ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ثانية وقال : " إن الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، وقد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس . إنه أحسن الحديث وابلغه ، أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفى ، قد سماه الله خيرته من الأعمال من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، إن الله يغضب أن ينكث عهده . والسلام عليكم " .وفي سنن أبي داود - (ج 6 / ص 15) عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ : " أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا{ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }" .
ملاحظة هامة : يتبع ... ذكرى الهجرة النبوية .. والتحديات الراهنة ( 2 - 2 ) .

ليست هناك تعليقات: