السبت، 23 مايو 2009

بيوت الطين بفلسطين للخالدين في صراع بين الفلس والطين 1430 هـ / 2009 م

بيوت الطين بفلسطين للخالدين
في صراع بين الفلس والطين
1430 هـ / 2009 م

د. كمال علاونه
أستاذ العلوم السياسية
فلسطين العربية المسلمة

يقول الله العزيز الحكيم جل جلاله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}( القرآن المجيد ، البقرة ) . يقول المثل الشعبي الفلسطيني : " من طين بلادك حط على خدادك " كدعوة للزواج من بنات الوطن ، ولكن هذه المرة من طين بلادك أوى نفسك وأسرتك وأولادك . في تطور مرير لهذا المثل الشعبي التراثي في الأرض المقدسة ، للحصول على مأوى جديد بعد التدمير الإرهابي الصهيوني لآلاف المنازل الفلسطينية بقصفها بصواريخ ثقيلة من الجو والبحر والبر . بداية ، تتألف كلمة أو لفظة فلسطين من ستة حروف هي ( فلسطين = ف ل س ط ي ن ) . وهذه الحروف هي حروف تضم في ثناياها الطين البلدي والطين المصنع والطين على شكل اللبن ( بكسر الباء ) . وبهذا فإن لفظة فلسطين ، بحروفها الثلاثة المؤلفة ( فلس ) وحروفها الثلاثة طين ، تعيد أمجاد الأمة العربية الإسلامية في الأولين والآخرين ، وتذكر بأمجاد الجهاد في سبيل الله لأمة المسلمين ، وتتذكر على مضض أيام المجاهد صلاح الدين ، بحطين طبرية بشمال فلسطين ، وبعده سيف الدين قطر في عين جالوت ببيسان فلسطين ـ وهذه بشرى لأهل فلسطين للفاتحين الجدد بأرض الزيتون والعنب والنخيل والتين . والشيء بالشيء يذكر ، وبعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة طيلة ثلاثة أسابيع ، امتدت بين قبل ظهر يوم السبت 27 كانون الأول 2008 – فجر 18 كانون الثاني 2009 ، واستشهاد قرابة 1400 مواطن فلسطيني ، وجرح حوالي 5500 آخرين ، وتدمير آلاف المنازل الفلسطينية بفعل القصف الجوي والبحري والبري ، تشرد قرابة 35 ألف مواطن فلسطيني ، خارج بيوتهم التي دمرت بفعل العدوان الغاشم ، ولم يتمكن هؤلاء المواطنين ، رغم مرور فترة طويلة من إعادة بناء بيوت جديدة بدلا عن المدمرة أو إعادة ترميمها بسبب إنعدام أو نقص مادة الاسمنت الكيماوية وغياب الحديد وقلة مواد البناء من الناعمة والفولية ( الحصمة ) وهي المكونات الضرورية لإعادة البناء هذا ناهيك عن قلة ذات اليد المالية رغم التعهد العربي والإسلامي النظري بتقديم نحو ملياري دولار أمريكي لإعادة إعمار غزة ، لإعادة بناء وترميم الكثير من المباني الرسمية للوزارات والمؤسسات والبيوت العائدة للعائلات الغزية في مختلف أنحاء قطاع غزة من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب . فاضطرت العائلات المكلومة بأعز أبناءها من الآباء والأمهات والأبناء والبنات ، والمنكوبة بمنازلها ومخازنها ومتاجرها ، إلى تشييد بيوت طينية بدائية ، وعلى نفقتها الخاصة في غالب الأحيان ، مع وجود بعض المساعدات المحلية ، ماليا وبنائيا . وهذه البيوت الطينية هي منازل مؤقتة لهؤلاء المظلومين والمكلومين ، في الأنفس والأموال والثمرات ويعانون من ظاهرة الجوع المستفحلة بسبب الحصار الشامل والإغلاق اليهودي على قطاع غزة في الزاوية الجنوبية الغربية من فلسطين على ساحل البحر الأبيض المتوسط منذ بضع سنين . وغني عن القول ، إن هذه المنازل الطينية ، تعود بنا للوراء عشرات السنين ، والعقود لأهل فلسطين غير الآمنين ، للغوص في التاريخ الفلسطيني القديم ، وبشكل لافت للنظر في قطاع غزة بفلسطين المحاصرة من الأشقاء والأعداء على حد سواء وخاصة في الحدود الفلسطينية – المصرية المشتركة مع أكبر دولة عربية سكانيا في إفريقيا الشمالية . وتبدو والحالة هذه أن شريعة الغاب الاستعمارية والعنصرية الصهيونية والأمريكية ، لا زالت سادرة في غيها رغم التطور العمراني العالمي ، فتراجعت حياة آلاف الفلسطينيين في هذه المنطقة الفلسطينية المنكوبة وأصبحوا يريدون استبدال الخيم المهترئة وما تسببه من مآس وفواجع اجتماعية واقتصادية ونفسية وفكرية وحضارية وقبلها الفاجعة السياسية التي عمت وطمت على أهل فلسطين الأصليين بفعل الإرهاب الصهيوني واليهودي الأصولي المتزمت منذ دافيد بن غوريون عام ثمانية وأربعين ، وحتى هذا الحين . لقد تشرد وهجر أهل فلسطين عدة مرات على شكل نازحين في وطنهم في المخيمات ، ولاجئين خارج الوطن على مرأى ومسمع من العالم أجمع ولا من ينادي بإنصاف أهل فلسطين الأصليين بحق وحقيق ليعشوا ويقيموا في وطنهم في حياة هادئة وهانئة بعيدا عن المنغصات والاستفزازات والتحرشات العسكرية والاقتصادية والحضارية والديموغرافية . ونحن في ربيع عام 2009 / 1430 هـ ، تتهاوى وتتجمع المآسي اليومية على هذه الفئة الفلسطينية المنكوبة ولا من يحرك ساكنا ، من أهل الحل العقد ، في قارات العالم الكبير ، وفي الوطن الإسلامي الكبير أو الوطن العربي الصغير أو الوطن الفلسطيني الأصغر ، فمئات المليارات يمتلكها العرب ، ويتم استخدامها لإنقاذ الاقتصاد العالمي وخاصة الأمريكي المتهاوي ، بينما أهل غزة يبدو أن لا نصيب لهم من هذه المليارات من الدولارات الملعونة ، كلعنة طابعيها ومسوقيها ، بلا رصيد اقتصادي حقيقي ، في الأسواق المالية العالمية . فهل يكفي ان يسمع ويشاهد الأهل المنكوبين في غزة ممن دمرت بيوتهم وحوانيتهم ، ويبيتون في العراء ، ويفترشون الأرض ويلتحفون الفضاء في أيام شتوية وربيعية ورياح خماسينية كما هبت في أيار 2009 ، والعالم يتفرج ولا من مغيث ، إلا رب العالمين الذي سيبدلهم قصورا في جنات النعيم المقيم إن شاء الله تبارك وتعالى ، لصبرهم وتنهداتهم المتواصلة والمتتالية ، من نكبة كبرى لنكبة صغرى فأصغر ، على مدار أكثر من ستة عقود زمنية ، ومبيتهم في العراء تحت الشتاء القارص اللاسع ، بلا أغطية كافية ، أو دفء أسري أو حنان عربي . فتصورا أن يعيش الأطفال في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي ، الموافق للعقد الثالث من القرن الخامس عشر الهجري الإسلامي ، والتهجير لا زال قائما في فلسطين ، يعيشون في الخلاء بين الأرض والسماء ، فكيف سيأكلون ؟ وكيف سينامون ؟ وكيف سيتعلمون ؟ وكيف سينهضون ؟ هذه الأسئلة بحاجة لإجابات قانعة ومقنعة لهم ولنا وللآخرين في فلسطين وفي الوطنين العربي والإسلامي وفي أمم أهل الأرض أجمعين . فبيوت الطين ، في إفريقيا ، وأمريكا الشمالية والجنوبية وآسيا واستراليا ، للمقموعين ، والمعذبين في الأرض فأين الإحسان يا أهل الإحسان ويا محسنين ويا متقين ؟؟ !! . وكلمة سواء للذين يبنون الأبراج العاجية في جميع أنحاء العالم ، فلا تنسوا أهل فلسطين المرابطين في بيوت الطين ، وهذه تذكرة وذكرى للأولين والآخرين ، وسينصر الله عباده المؤمنين ، بالصبر والثبات ، والتكاثر الطبيعي ، رغم الظروف غير الطبيعية ، وسينشأ هؤلاء المعذبون في الأرض على حب فلسطين والذود عن حياضها ، مهما كلف الأمر من دم وفلس وطين متفرقة أو مجتمعة ، ولكن ما يهمها هو التجميع السياسي بين المقطعين لتؤلفان وحدة فلسطين من بحرها لنهرها يا سامعين وقارئين ومطالعين ومشاهدين . على العموم ، لقد جربت هذه الفئة الفلسطينية من أهل بيوت الطين ، النكبة تلو النكبة بمرارتها الأولية والآخروية ، من فلسطين المحتلة عام 1948 ، إلى قطاع غزة هاشم الصامد ، صمود الأبطال في وجه المحتلين المحاصرين الأنذال الغرباء على البلاد والطارئين . فجربت المبيت في الخيم وفي بيوت الزينكو في المخيمات الفلسطينية ، منذ غابر الأزمان ، وها هي تجرب الآن بناء بيوت جديدة ليست مصنوعة من الخرسانة أو الحجر الذي تشتهر به أرض فلسطين ، والذي يعتبر بمثابة الذهب الأبيض لأهل البلاد المقدسة ، بل مبنية من الطين ، وليس القرميد الأحمر طبعا ، فالطين هو المقطع الأخير من كلمة ( فلسطين ) وبقيت غائبة عملة الفلس ، بينما تواجدت مادة الطين ، الموحلة في الشتاء وعند سقوط الأمطار الغزيرة من سماء فلسطين الأرض المباركة ، فمرحى لبيوت الطين ، في ظل العزة والكرامة والعنفوان والمجد في الصمود الأسطوري ، في ارض الآباء والأجداد ، يا بني قومي المرابطين في بلاد غاب عنها الفلس وبقي فيها الطين . حدثني والدي العزيز ، اعزه الله وشفاه من مرضه الآن ، وهو من أهل الأنصار وزوجتيه من المهاجرين ، ذات مرة عن بيوت الطين في فلسطين ، فقال : لقد حرمنا الاحتلال البريطاني في سنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين الماضي ، من بناء بيوت حجرية بخرسانة قوية ، في أرضنا ، في يوم من الأيام ، عندما جلب مئات آلاف اليهود ، إلى بلادنا ، وحظر علينا البناء الاسمنتي المكون من الخرسانة ( الاسمنت والناعمة والحصمة والماء ) ، فقمنا بخلع حجارة كبيرة وأصلحناها وبنينا بيوتا من حجر وطين ، فيما يعرف ببيوت العقد القديمة ، لنأوي إليها في الشتاء والصيف والفصلين الآخرين ، وهما الربيع والخريف ، في تضاد سياسي وعسكري واجتماعي واقتصادي مبين ومستبين ، وكان أن شيدت البيوت الحجرية الظاهرة وجبل الطين مع حبيبات القش من مخلفات درس الحبوب وخاصة القمح والشعير ، لتؤلف مساكن مرتفعة ( فيلا الطين والحجر ) مكونة من طابقين ، مخزن سفلي ، كحظائر للأبقار والأغنام ، ومأوى علوي للأسرة الفلسطينية ، وهذا المأوى العلوي ، يربط بينهما درج بالاتجاهين العلوي والسفلي ، وقد أجبرنا الاحتلال البريطاني البغيض على صنع منازل جديدة لا زالت بعض بناياتها ظاهرة للعيان وبعضها الآخر ، هدم بفعل العوامل الطبيعية وتقادم الزمن . وبعد تعاقب الأجيال الفلسطينية ، إثر ثمانين عاما ، وبعد زوال الاحتلال البريطاني ، وبقاء صنيعته يهود فلسطين من بني صهيون اللئيمين ، عاد الأبناء والأحفاد للسيرة الأولى وهي بناء بيوت الطين في ارض الفلسطينيين المسلمين المرابطين في ارض الإسراء والمعراج من المعذبين والمنكوبين على مدار دولاب الزمن حتى ينفرج الفرج ولو بعد حين . عادوا وعدنا للمربع الأول ، بناء بيوت من طين ، رخيصة الثمن ، تقي الحر والبرد ، والأمطار والرياح العاتية ، ولا يخترقها الرصاص الخفيف ، وتمارس فيها حياتها البائسة المحتسبة لرب العالمين عائلات من بلادنا فلسطين المقدسة ، ارض الكنعانيين الأوائل ، واليبوسيين بناة المدن في الأرض المقدسة ، فصبروا وصبرنا وستصبر الأجيال العربية المسلمة في ارض المرابطين القابضين على الجمر ، لا يضرهم من عاداهم وخالفهم ، من يهود فلسطين ، ويهود أمتى ممن يدعون أنهم عرب ومسلمين ، ولو في بيوت من طين . وأخيرا ، نقول للجميع ، من المنكوبين والمتفرجين وأصحاب الأموال والكنز الدفين ، بأن بيوت الطين في غزة هاشم بفلسطين ، ستكون منازلها أصمد وأقوى وأجدى من أصحاب المليارات والملايين ، والأبراج والعمارات والأبنية الشاهقة ، الذين بقوا مع الخوالف ولم ينقذوا أو ينجدوا أهل فلسطين الميامين ، فصبرا يا اهل فلسطين ، فلتناموا في بيوت من طين ، ولا تكونوا في وضع حزين ، وتكاثروا وأنجبوا فإنكم لا تزالون على الحق ظاهرين ، يا أبناء الطائفة المنصورة في البلاد آمنين ، ولو بعد حين . فطوبى لكم ، والنصر والفتح المبين ، على الأبواب والشبابيك الطينية بأرض فلسطين . ومرحى وألف مرحى للساكنين في منازل الطين ، فهذه منازل مباركة لأهل فلسطين في الأولين والآخرين ، واسألوا الله الملك الحق المبين ، لتكونوا من المفلحين والناجحين في الابتلاء والبلاء ما بين الفلس والطين . فليقترب مقطع الفلس من مقطع الطين لتؤلف كلمة فلسطين وتكون كلمة الخالدين . والله ولي التوفيق . سلام قولا من رب رحيم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات: