السبت، 17 أبريل 2010

وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ .. تجربتي الإعتقالية في السجون الصهيونية .. في يوم الأسير الفلسطيني


وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ..

تجربتي الإعتقالية في السجون الصهيونية ..

في يوم الأسير الفلسطيني



د. كمال إبراهيم علاونه
أستاذ العلوم السياسية
الرئيس التنفيذي لشبكة الإسراء والمعراج ( إسراج )
نابلس - فلسطين العربية المسلمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يقول الله العزيز الحكيم جل جلاله : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) }( القرآن المجيد – يوسف ) . وجاء في صحيح البخاري - (ج 10 / ص 257) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُكُّوا الْعَانِيَ يَعْنِي الْأَسِيرَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ " .

استهلال

دأبت قوات الاحتلال الصهيوني ، منذ قيام الكيان الصهيوني المصطنع في 14 أيار 1948 ، على تعذيب الفلسطينيين والزج بهم في غياهب السجون اليهودية الصهيونية اللئيمة ، فقد أعتقلت مئات آلاف المواطنين الفلسطينيين ، ذكورا وإناثا ، بشتى الدعاوى والحجج العسكرية والسياسية المصطنعة ، وتنوعت أشكال وألوان هذا الاعتقال ما بين الموقوفين ، والمحكومين بانتظار المحاكمة والمعتقلين الإداريين ، من مختلف الفئات العمرية من الأطفال والشباب والكهول والكبار في السن الذين تجاوزت أعمارهم ما بين الستين والسبعين عاما .
وغني عن القول ، إن الشعب الفلسطيني ، شعب حي ، لا يرضى بالذل والإنكسار والخضوع والخنوع والإذلال والإهانة ، لوحشية وعنجهية وعربدة الاحتلال والمحتلين ، فقاوم ولا زال كافة أصناف التعذيب والترغيب والترهيب الصهيونية ، التي أسقطت سياسة النازية والفاشية ضد الفلسطينيين ، فكان المثلث النازي الألماني – الفاشي الإيطالي – الصهيوني اليهودي هو المطبق في جميع أنحاء فلسطين المحتلة من بحرها لبحرها ( البحر الأبيض المتوسط غربا للبحر الميت شرقا ) ، ومن شمالها لجنوبها . وحسب بعض الإحصاءات الرسمية وشبه الرسمية الفلسطينية ، فإن أكثر من ثلث شعب فلسطين تعرض للاعتقال السياسي والأمني والعسكري بشتى الحجج والدعاوى الصهيونية للحفاظ على الكيان العبري المصطنع في أرض فلسطين التاريخية بمساحتها 27 ألف كم2 .
لقد سجن نبي الله يونس بن متى ، في بطن الحوت ، ثم أخرجه الله عزيزا ، في قومه ، في ارض نينوى بالعراق ، ما بين الرافدين . كما سجن نبي الله يوسف عليه السلام في مصر ، بضع سنين ، ثم أكرمه الله سبحانه وتعالى وجعله على خزائن الأرض ، ونال ما أراده من ظالميه ، ونصره الله القوي القدير القادر ذو الجلال والإكرام ، على المتأمرين عليه ، سواء من الأقارب أو الأباعد . وما نريد قوله وتأكيده ، إن الله ناصر المستضعفين في الأرض ، فعندما يقع البلاء والإبتلاء ، يتبعه الصبر فيثمر الثمر وهو التمكين في الأرض ، وبهذا فإن الله تبارك وتعالى سيمكن الشعب العربي الفلسطيني المسلم في الأرض المقدسة ، كل التمكين ، ولو بعد حين ، حين يحين الحين ، وفي ذلك بشرى إسلامية إلهية ونبوية لنصرة الطائفة المنصورة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بفلسطين المباركة ، الصابرة المصابرة الثابتة على الحق واليقين الإسلامي المبين .
وفيما يلي نبذة عن تجربتي الاعتقالية القصيرة ، الإحترازي والتحقيق ، والاعتقال الإداري لثلاث مرات متباعدات 1985 و1988 و1989 ، في 8 زنازين وسجون من سجون الاحتلال الصهيوني الطارئ على أرض فلسطين ، للفائدة وأخذ العبر والعظات ، للأجيال الفلسطينية الحالية والمستقبلية الواعدة ، من الآباء والأمهات ، والأبناء والأشقاء والشقيقات والأحفاد ، الذين ستشرق بهم شمس الحرية وتظهر على أكتافهم وأيديهم ( الرايات السود ) بالنصر والتمكين الإسلامي الموعود ، كما جاء بالحديث النبوي الشريف . فقد جاء في سنن ابن ماجه - (ج 12 / ص 102) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ابْنُ خَلِيفَةٍ ثُمَّ لَا يَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَيَقْتُلُونَكُمْ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْهُ قَوْمٌ ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا لَا أَحْفَظُهُ فَقَالَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ " . كما جاء في مسند أحمد - (ج 45 / ص 368) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّايَاتِ السُّودَ قَدْ جَاءَتْ مِنْ خُرَاسَانَ فَأْتُوهَا فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ " .
ولا بد من تذكيري للأسرى وذويهم والمهتمين بأمرهم ، بأن ابنتي الصغرى ( أمل الزهراء – 6 سنوات ) ، قد حضرت لمكتبي وأنا أخط هذه التجربة الاعتقالية ، قبل ظهر يوم الأسير الفلسطيني يوم السبت 4 جمادى الأول 1431 هـ / 17 نيسان 2010 م / وطلبت مني تنظيف المكتب ، الذي اكتب عليه هذه التجربة الاعتقالية السابقة ، دون أن أطلب منها ذلك ، وطبعت على وجنتي ( قبلة صغيرة ) لن أنساها ، فهذا نوع من التوفيق الرباني ، فسبحان الله حين نمسي وحين نصبح ، وحين نظهر ، وهذا يذكرنا بيوم الأسير الفلسطيني الذي اكتب هذه التجربة إحتفاء وتذكيرا واستذكارا له ولي ولجميع الأسرى الفلسطينيين والعرب وذويهم وزوجاتهم وأبناءهم في السجون الصهيونية البغيضة . ولا بد من أن تطبع طفلة صغيرة قبلة بريئة على وجنتي كل أسير فلسطين حالي أو سابق أو لاحق وسيرى النور ، النور الإلهي والفرج القادم لا محالة ، كما أخرج الله يونس من بطن الحوت ، وكما أخرج يوسف الصديق من السجن المصري وأكرمه التكريم اللازم .

تجربتي الاعتقالية الأولى
5 أيام بمسلخ الفارعة العسكري الصهيوني

نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي

في 28 أيار عام 1983 ، عندما كنت طالبا في السنة الجامعية الثانية لنيل درجة البكالوريوس ، بقسم العلوم السياسية والصحافة بجامعة النجاح الوطنية بنابلس وكنت أعزبا ، تعرضت للاعتقال السياسي في السجون الصهيونية ، حيث حضرت قوة كبيرة من قوات الاحتلال الصهيوني ، بجيبات عسكرية وسيارات مدنية ، من الجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات بمرافقة العملاء عن بعد المكشوفين جهارا نهارا ، والمخفيين المندسين في صفوف المواطنين . وعملت قوات الاحتلال على تجميع الشباب الفلسطيني بقريتنا عزموط على بعد 5 كم شمال شرقي نابلس ، عبر المناداة بميكرفون دورية ( جيب ) الاحتلال الصهيوني العالي الصوت ، عبر جوب الشوارع والطرقات ، ليلة 28 / 5 / 1983 ، والطلب من جميع الشباب التجمع في ساحة مسجد القرية ( مسجد عمر بن الخطاب ) في منطقة الحبلة وسط القرية ، وأجبر جميع المحضرين ، تحت الترهيب الصهيوني المسلح ، على الجلوس على مؤخراتهم ( التربيعة أو القرفصاء ) على الأرض وتمت المناداة الصهيونية على بعض الأسماء وخاصة من قيادة لجنة الشبيبة للعمل الاجتماعي في القرية ، من بين عشرات المواطنين الذكور ، وكان اسمي ( كمال شحادة ) في مقدمتهم ، كما توقعت ، بإعتباري رئيسا ومؤسسا للجنة الشبيبة التابعة لحركة فتح ، وطلب مني واثنين آخرين من عائلة ثانية الجلوس جانبا ، وبعد ساعتين جرى نقلنا عبر الجيب العسكري الصهيوني إلى سجن الفارعة مع مواطنين آخرين من مدينة نابلس .
وكانت الحجة الصهيونية لتجميع هؤلاء المواطنين الفلسطينيين ، في ساحة جامع القرية الصغير القديم البناء ، بالقرب من معصرة زيت زيتون قديمة مندثرة ، أن كتابات جدرانية باللغة العربية قد خطت ورسمت على جدران البيوت تندد وتتوعد روابط القرى العميلة التي أنشأتها قوات الاحتلال الصهيوني وما يسمى بالإدارة المدنية اليهودية بالضفة الغربية كرديف لها لاستمرار الاحتلال والتفاوض باسم الشعب الفلسطيني المعذب في أرضه وإهمال وتجاهل منظمة التحرير الفلسطينية من وحدانية وشرعية التمثيل للشعب الفلسطيني . فكانت روابط القرى العميلة البائدة السفيهة ، عبارة عن ميليشيات مسلحة مزودة بالمسدسات ورشاشات العوزي الصهيونية الصنع ، تابعة لقوات الاحتلال الصهيوني قلبا وقالبا ، ماليا وعسكريا ونفسيا ، وتأتمر بأوامر سادتها أجهزة المخابرات الصهيونية .
وقد جرى نقلنا إلى ( سجن الفارعة ) العسكري الصهيوني التابع مباشرة لإمرة جيش الاحتلال العبري وليس لمصلحة السجون الإسرائيلية كبقية السجون الصهيونية ، قرب مخيم الفارعة ، على بعد 15 كم شمال شرق نابلس ، وعيوننا معصوبة ، وأيدينا مكبلة بالكلبشات ، وأرجلنا مصفدة بالأصفاد الحديدية والبلاستيكية ، وسط اللكمات والضربات الجنونية بأعقاب البنادق ( أم 16 ) وركلات الأرجل ، وصفعات الأيدي ، من جنود الاحتلال الصهيوني البغيض ، من ما يسمى حرس الحدود وجنود الجيش من الدروز واليهود على السواء ، لإرهابنا وتخويفنا وتوجيه الإذلال والإهانات والتعذيب المضاعف ، فكانت ليلة طويلة على ثلاثتنا ، لم تمر علي أنا شخصيا مثلها ، فقد أنهكنا من التعذيب الوحشي اليدوي قبل دخول ردهات السجن . وعند دخولنا بوابة السجن العسكري الصهيوني ، في ساعات الفجر الباكر ، قبل شروق الشمس ، تنفسنا الصعداء جميعا ، فقد انتقلت سياسة التعذيب والإهانات من الدورية أو الجيب العسكري الصهيوني ، لمرحلة ثانية جديدة سابقة عن الأولى ، فقد وضعنا مع أسرى فلسطينيين آخرين من الشباب من مدينة نابلس في غرفة اسطبل حيوانات ، كانت تستخدم لربط الخيول أيام العهد الأردني السابق ، في سجن الفارعة العسكري اليهودي ، وكان يشرف عليه شخصية يهودية متطرفة يدعى ( غدير ) المتمكن من الحديث باللغة العربية والعبرية ، الذي كان يصول ويجول جيئة وذهابا ، ليلا ونهارا ، ويتفنن في تعذيب الشباب الفلسطيني بشتى الطرق النفسية والبدنية لا فرق ، ولا يتوانى عن ضرب أي سجين سياسي وأمني فلسطيني رهن الاعتقال الاحترازي صغيرا أو كبيرا ، فكان هذا السجن مسلخا من مسالخ الصهيونية العصرية البغيضة ، الذي هاجت وماجت مؤسسات وجمعيات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام والصحافة المحلية والعربية والعالمية ، في إدانته واستنكار وشجب أساليبه القمعية في لتعذيب الجماعي للفلسطينيين . لقد عانينا كثيرا من هول هذا المسلخ البشري ، طيلة الأيام الخمسة التي مكثناها في هذا السجن الصهيوني الإرهابي الرهيب ، فمثلا كان يتم إيقاظنا بعد نومنا بساعتين أو ثلاثة في ساعات الفجر الأولى ، وخاصة ما بين الثانية والثالثة فجرا لإجبارنا غرفة غرفة من غرف السجن الكبيرة ذات المساحة الواسعة التي قد تتسع لخمسين أو مائة سجين سياسي ، على تنظيف ساحة السجن الصهيوني من أعقاب السجائر التي يتعاطاها جنود الاحتلال الصهيوني في السجن ، وسط السباب والشتائم النابية البذيئة ، والضربات الثقيلة بالعصي والكرابيج والبنادق والأيدي والأرجل الصهيونية المقيتة ، لوجوه وظهور وأكتاف ومؤخرات السجناء والأعضاء التناسلية للأسرى الفلسطينيين الشباب ، ووسط الآهات والتأوهات المنبعثة والآم الجراح النفسي والجسدي من أفواه الأسرى المعذبين في ساعات الليل الحالك . وأغطية وفرش النوم كانت مهترئة ولا تليق بالآدميين ، بل فضلت شخصيا أن أنام على تراب الاسطبل من أن أفترش فرشة وسخة قذرة ، أو أغطى نفسي بحرام رائحة نتنة ، فافترشت أرضية الإسطبل بانتظار الإيقاظ الليلي لالتقاط أعقاب ( قمع أو مؤخرة ) السجائر النتنة المتبقية من أفواه المجرمين السجانين . زد على ذلك ، لقد تم استدعاء شباب أسرى من سجن الفارعة ممن يجيدون قص الشعر والحلاقة على الصفر ، حيث تناوبوا ، جبريا لنا ولهم ، على حلق رؤوسنا جميعا على الصفر ( ملط ) وينادي الضابط الصهيوني المهتز والمريض نفسيا غدير ( ملط ملط ) ، بلهجة استهزائية وفوقية للسجناء ، بدعاوى صحية في ظل تردي الأوضاع الصحية في المعتقل العسكري الصهيوني ، ولكن تكمن حقيقة الحلق ( أقرع أو أصلع ) على الصفر ، هي توجيه الإهانة الواحدة تلو الأخرى والقمع العسكري وراء الآخر ، لنزلاء المعتقل الإرهابي من السجانين المخربين الإرهابيين . وكانت الأطعمة شحيحة لا تتعدى عدة لقيمات للأسير المعتقل ، الموقوف أحترازيا لفترة لا تقل عن أربعة أو خمسة أيام متواصلة ، تتمثل في بعض حبات البطاطا المسلوقة ، والبيض المسلوق والزبدة البيضاء ، والتطلي وكسرات من خبز الفينو الصهيوني المحشو باللب الذي لا يستسيغه الأسرى من ناحية ذوقية ومن ناحية نفسية وبدنية ، حيث لا يعرفون ما يخبى لهم السجانون الأشداء الذين يبدو أنهم انتقوا من غلاة المتطرفين اليهود لقمع هؤلاء الأسرى الشباب . وكانت اطعمة الغذاء والعشاء ليست أحسن حالا من طعام الإفطار الصباحي ، وكنا لا نفضل تناول ذلك الطعام الردئ ، وتراجعت صحتنا خلال الفترة الصغيرة لابتعادنا النفسي والبدني عن طبيعة هذه المأكولات غير الشهية . وكذلك كنا نحسب ألف حساب ، لتفريغ المعدة أو أحد السبيلين ، حيث كنا نعاني الأمرين في الخروج بإذن قمعي صهيوني لبيت الخلاء ( المراحيض ) النتنة التي دهنت وطليت جدرانها بالبراز ( الخراء ) مما تعافه الأنفس والعقول والحضارة الإنسانية العصرية .
وبعد حوالي خمسة أيام ، جرى إطلاق سراحنا وسط التهديد والوعيد ، بأننا إن عدنا لهذا المعتقل فسنرى نجوم الظهر ، من قائد السجن السفيه الكابتن ( غدير ) الذي خطب فينا بجفاء وصلافة وعنجهية نتنة ، بلهجة عربية مكسرة ومتكسرة باستهزاء وسخرية ، وسط حراسة عسكرية مدججة بالسلاح ، فعدنا إلى بيوتنا سالمين غانمين واشتريت قبعة صفراء لتغطية رأسي من حر الصيف اللهيبة بسبب حلاقة ( الملط – درجة صفر لشعر الرأس ) ، في شهر حزيران ذو الحرارة المرتفعة والرطوبة الشديدة ، ولكنني شخصيا لم ولن أنسى هذا العذاب الأولي ، في هذا السجن الصهيوني الذي أدارة السفاحون من غلاة المتطرفين اليهود ، وظلم بني جلدتنا الوشاة بنا دون وجه حق . فلاحظت فئة ( القرعان الصلعان الأسرى ) الخارجين من سجن الفارعة ، قبو الموت والمسلخ الصهيوني العنيف ، بالعشرات في الحرم الجامعي لجامعة النجاح الوطنية بنابلس وسط التهكمات والمناداة بالصراخ ، والمزاح المتعاقب من الزملاء والزميلات الطلبة في الصفوف والقاعات الجامعية .

تجربتي الإعتقالية الثانية
20 يوما في زنازين رام الله والمسكوبية بالقدس
28 / 6 - 18 / 7 / 1983

نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي

بعد اقل من شهر ، تم اعتقالي من قوات الاحتلال الصهيوني مرة ثانية ، في 28 حزيران 1983 ، حيث حضرت قوات كبيرة مؤلفة من حوالي 40 جنديا ، من جيش وأجهزة المخابرات الصهيونية ، وداهمت بيت أسرتي في الحارة الشمالية بقرية عزموط شمال شرق نابلس ، وسط الليل بعد الساعة الثانية عشرة ليلا ، وكان شهر رمضان قد هل هلاله الأولي الإيماني التعبدي اللامع ، بثلثه الأول ، بكل ما يجلبه من حب ومودة وسرور وتجمع عائلي هادئ واستقبال مهيب للنفوس الإسلامية المؤمنة . ولكنه كان بالنسبة لي ، مصاحبا لقدوم بلاء وإبتلاء وامتحان رباني جديد . جرى اعتقالي وسط زوبعة عسكرية مخيفة ، وحراسة ومداهمة صهيونية راجلة ومؤللة غير مسبوقة في قرية عزموط ، واستغربت هذا الأمر ، وقلت لضابط المخابرات المرافق لهذه الكم الهائل من أوباش جنود الاحتلال الصهيوني ، لم هذه الجبلة السريعة ؟ ولماذا هذا الاستعراض العسكري الرهيب وسط الليل ؟ لقد أفزعتم أسرتي وخاصة إخوتي وأخواتي الأطفال ، مما حدا بوالدتي الحنونة للهجوم الكلامي العالي بالصراخ على هؤلاء الأوغاد وسط الليل الرمضاني ، ومن لف لفهم ، وأنطلق لسانها يدعو على الظالمين الذين انتهكوا حرمة البيت ليلا دون مقدمات ، ولكن صياحها ذهب أدراج الرياح ، وسط وجود والدي وإخوتي وأخواتي الصغار ، الذين أفزعهم هول المنظر التخريبي اليهودي اللعين ، وبدوري طلبت من والدتي الهدوء وعدم الانفعال أكثر لئلا يضر ذلك بصحتها فأنا رجل مثل الرجال الأبطال بل أكثر ، وإيماني بالله راسخ ومتين ، ولم افعل شيئا مشينا لا سمح الله ، بل أعتبر نفسي في مقدمة المواطنين الصالحين المرابطين في أرض الرباط المقدسة ، الذين نذورا أنفسهم لمحاربة ومقارعة الجموع اليهودية المكدسة بفلسطين المحتلة بشتى السبل القانونية والشرعية الإسلامية والوطنية المتاحة . فهؤلاء الغرباء الطارئين الأنجاس اليهود ، قد جاؤوا لاعتقالي شخصيا ولم يفتشوا البيت بصورة دقيقة بل لماما ، تفتيشا سريعا ، يدلل على تخطيط مسبق لإهانتي وإذلالي وتعذيبي ، وطلب منى ضابط المخابرات الصهيوني عندما استفرد بي بحراسة شديدة ، أين السلاح ؟ أين سلاحك ؟ فقلت له : عن ماذا تتحدث فأنا مجرد طالب جامعي بجامعة النجاح الوطنية بنابلس ولا أتعاطى التعامل مع السلاح بتاتا بل أجيد الدراسة الجامعية في الإعلام والسياسة ، لا أكثر من ذلك ؟ فقال لي : أنت تكذب وسنذلك ونعذبك في الزنازين لتعترف عن مكان السلاح ؟ لأنك إرهابي ومخرب كبير ، وسط استغرابي واستغراب عائلتي الكريمة الفقيرة الحال والمال والمآل القوية الإيمان بالله الواحد القهار ، من هذه الأسئلة الجوفاء الفارغة المحتوى والمضمون . ولكن يبدو أن الوشاية كبيرة هذه المرة من عملاء وجواسيس حاقدين ، فقد فبركوا اللعبة الصهيونية لملاحقتي المتواصلة ، وثنيي عن متابعة دراستي الجامعية ، ووضعي في السجن الصهيوني بين الحين والآخر .
على أي حال ، جرى نقلي عبر جيب عسكري صهيوني ، وأنا مكبل اليدين ومصفد الرجلين ، ومعصوب العينين ، في فجر ذلك اليوم المشؤوم ، بحراسة مشددة ، وكأني بطل كبير من الأبطال ، إلى مقر الحكم العسكري بمدينة نابلس ، وسط ضجيج الضربات الصهيونية الحاقدة المتوالية على جسمي النحيل ، من كل جندي يحضر لمقر الحكم العسكري ، ضربة على رأسي من هنا ، وركلة برجل على مؤخرتي من هناك ، وصفعة موجعة على وجهي ، من هذا النذل أو ذاك ، وأنا لا أرى أحدا . وبعد عدة ساعات حضر جيب صهيوني وأصعدني فيه جنود الاحتلال الصهيوني ، وجرى نقلي لمدينة رام الله ، فما أن وصل الجيب إلى لية مفترق زعترة بعد بلدة حوارة جنوبي نابلس على بعد 15 كم ، حتى توقف عن العمل كليا ، وأنا وسط التكبيل والأصفاد ودعائي لله مجيب دعوة الداعي المضطر إذا دعاه ، فكنت أقرا آية الكرسي وسور الفاتحة والإخلاص والفلق والناس ، وآيات قرآنية مجيدة أخرى ، فأنزلني جنود الاحتلال الصهيوني من اليهود والدروز المجرمين ، وقال لهم أحدهم : إن هذا الشاب مظلوم ، فقال لي هل أنت صائم ؟ قلت له : الحمد لله رب العالمين ، وقد تراجع الجيب دفعا ومشيا سيرا على الأقدام ، باتجاه الشمال نحو معسكر حوارة العسكري الصهيوني ، وهددني بعض جنود الاحتلال فقالوا لي لو حاولت الهروب منا سنقتلك ونطلق عليك الرصاص الحي حالا ، فاحذر ؟؟ ! وأنا ممتعض ومستفز وحانق مما يجري ، فالعذاب بعذابين ، عذاب التكبيل والتصفيد ، وعذاب المشي القسري بالحجل ، ولكنهم نزعوا عني عصابة العينين . ورجعنا لمعسكر حوارة الصهيوني ( حورون ) وتم استبدال الجيب العسكري بجيب صهيوني آخر ، ولكن هذه المرة لم يعتدي علي جنود الاحتلال فقد تعبوا من جر ودحل جيبهم ، الذي يعتقلني ظلما وعدوانا ، بلا أدنى ذنب اقترفته فيما أعلم ويعلم الله العزيز الحكيم .
على العموم ، أدخلت سجن رام الله المركزي ( مقر الرئاسة الفلسطينية حاليا ) ، وجري فحصي طبيا ، وأدخلت في زنزانة صغيرة حقيرة ، برهة من الوقت لحوالي ساعة تقريبا ، وقبلها صودرت أغراضي الشخصية ، ساعتي وهويتي وقشطي الجلدي ، وأربطة حذائي ، ثم فتحت طاقة الزنزانة ، واستدعاني جندي صهيوني نهرني وسبني ثم شبحني وصلبني ، ووضع غطاء الرأس القذر على رأسي ووجهي وعيوني حتى أسفل رقبتي ، ويداي مربطة مكبلة للخلف ، وأجبروني على الوقوف على قدم واحدة طويلا ، ولكنني كنت أغافل ذلك الحارس الحقير وأبدل الأرجل ، وبعد مرور عدة ساعات هبطت كليا على الأرض تعبا وإصرارا على رفض الأوامر العسكرية الصهيوني بهذا العذاب الجافي الأليم فيحاولون إيقافي فاقف ثم أنزل على الأرض من شدة النعاس والألم . صلبوني وشبحوني عدة أيام ليلا ونهارا ، لإنتزاع الإعتراف الظالم مني ، فصبرت ورفضت أن أعترف بشيء لم افعله ، لقد وضعت أمام قائمة من التهم ما أنزل الله بها من سلطان ؟؟ ويجري التحقيق بشأنها ، وكل ما أعرفه أنني قمت بأعمال تعاونية مع ثلة من أبناء القرية البررة ، كرصف بعض الطرقات ، وممارسة العمل الاجتماعي في الأفراح والأتراح ، ومساعدة المحتاجين اجتماعيا وصحيا واقتصاديا وعلميا ، وترؤسي للجنة الشبيبة للعمل الاجتماعي في قريتي الطيبة المرابطة قرية عزموط التي كانت تنخر بميليشيات روابط القرى العميلة للاحتلال الصهيوني .
كنت في معظم الأحيان أرتدي الفانيلا ( الشباح ) والشورت لعند الركبة أو الشورت وحدة بلا لباس علوي ، أثناء مكوثي في الزنزانة الصهيونية اللعينة ، التي لا تطاق من شدة الحر ، والمرتفع الجوي الصيفي العظيم ، والرطوبة الممعنة في زيادة إفراز العرق من الجسد البشري الآدمي ، المحاصر من جميع الجهات ، بخمسة جدران اسمنتية ، أربعة جدران وسقف في شهر حزيران وتموز الصيفيين .
وبين الحين والآخر ، كان يستدعيني ضابط أو ضباط مخابرات يهود بالجملة لاستجوابي والتحقيق معي ، لساعة أو ساعات معينة ، بالترغيب والترهيب ، وكان الترهيب واضحا ، والتهديد والابتزاز جليا ، ولكنني لم أكترث لهذه الأساطير والخزعبلات الجنونية ، التي لا تمت للواقع والحقيقة بصلة ، ثم يرجعوني للشبح أو الزنزانة ، حسب طبيعة الوضع الاعتقالي ، لأنه كان هناك العشرات من أمثالي يعانون من الشبح والتصفيد وتغطية العيون ، وتلبيس الأكياس النتنة القذرة ، وقد كنت مصابا بالإنفلونزا ، فشفيت بحمد الله تعالى بقدرة قادر ، ولم أعد أرى للمرض أثرا ، فسبحان الله ناصر المستضعفين في الأرض . وكانت الزنزانة ، موصدة الباب دائما ، ولها طاقة ( شباك صغير ) يجري تمرير الأوامر والتهديد والوعيد عبرها من ضابط التحقيق المختص ليلا ونهارا لتفقد أحوال السجناء المتعبين المظلومين المعذبين ، وإنزال ثلاث وجبات طعام خفيفة عبرها ، وهي بمساحة لا تتعدى 2 م طول × 2 م عرض أي بما يساوي 4 م2 ، وبداخلها مرحاض عربي ، ويتم في كثير من الأحيان إدخال مناضلين فلسطينيين أو عملاء ( عصافير ) فيها ، لاستكمال التحقيق والحصول على معلومات استخبارية خفية عبر الحديث الثنائي أو الثلاثي أو الرباعي مع القادمين الجدد مؤقتا لساعة أو ساعات طويلة ، للزنزانة اللعينة ذات الحرارة المرتفعة التي تصل لأكثر من 40 درجة مئوية مع وجود فرشة وحرام بطانية قذرين في الزنزانة القبيحة .
وإزاء هذا الضغط البدني والنفسي الشديد بالتحقيق تارة والصلب والشبح والضرب تارة أخرى والحشر بالزنزانة في فصل الصيف الحار بدرجة حرارة مرتفعة طورا ، فقد أصبت بضيق التنفس ، وهزال تام ، وصعوبة في الوقوف أو المشي ، وأغمي علي ، فلا أكسجين في الزنزانة الاسمنتية المقفلة ، ولا ماء للتبريد ، وجرى نقلي للمستشفى ، وأنا مكبل اليدين ومصفد الرجلين ، ولم أصحو إلا وأنا في سرير غرفة المستشفى الصهيوني الذي لا أعرفه حتى الآن . ثم أعدت بعد ساعات من ذلك ، وجرى فحصي ، دون إعطائي أي علاج كان ، وأتهمني جنود وضباط وأطباء الاحتلال بالمستشفى بتمثيل مسرحية ، للخروج من الزنزانة التي كانت عبارة عن قبر مغلق بصورة حقيقية بكل ما في الكلمة من معنى ، يجرى فتحه للتعذيب والتحقيق والشبح وإدخال العملاء مؤقتا للاستدراج الظالم الموبوء بطلاسم الكلام الدنيئ . وبعد أسبوعين تامين من العذاب والمرار ، والحشر بصندوق الزنزانة الخراساني اللعين ، وإدخال المناضلين المفترضين والجواسيس الملاعين المعروفين ب ( العصافير ) ، لاستدراج الأسرى والاعتراف أمامهم بطرق خبيثة ماكرة .

ضابط مخابرات بلهجة عراقية في زنزانتي

واكتشفت مرة أثناء تحقيق واستجواب لاحق ، أن أحد ضباط المخابرات الصهيوني دخل زنزانتي ، لساعات طويلة ، اسمر اللون ، كبير الجثة ، يمتلأ خبثا وكراهية للفلسطيني ، فهو بصورته القبيحة وبجسمه ولحمه مع تبدل لباسه ، حيث دخل متخفيا بأنه مناضل فلسطيني قادم من العراق ، حث أنني كنت قد زرت العراق لمتابعة تسجيلي بإحدى الجامعات العراقية ، ولم اقبل رغم ارتفاع معدلي في الثانوية العالة – التوجيهي ( 83.4 % ) . وفهمت الخدعة الجديدة والمكيدة ولكنني تجاهلت الأمر وأهملته ، ولم أعره أي إهتمام ، وتصرفت كالمعتاد . فلم أتفاجا لذلك ، ثم جرى إيهامي بأنهم أعتقلوا بعض إخواني عبر المناداة على سجناء جدد بأسماء بعض إخوتي الذكور الكبار . وكنت قرأت العديد من الكتب والكراسات الاعتقالية الوطنية الفلسطينية المتعلقة بالتحقيق داخل الزنازين والسجون ، كتبها بعض الأسرى الفلسطينيين النجباء الثوار الأحرار الأبرار . ولكنني قارئا من الطراز الأولى في هذه الشؤون والشجون والسجون ، وكنت حذرا جدا من الجميع ، بكلامي وسمعي وبصري ، وكنت أفضل الاستماع على الحديث في أي موضوع كان ، مهما صغر أو كبر ، فقد نذرت صوما كلاميا شبه كلي في هذه الظروف الصعبة التي مررت بها ، وسط إلحاحهم على الحديث معي وتقديم أنفسهم بأنهم مناضلين ومجاهدين في صفوف حركات وطنية مجاهدة ضد الاحتلال الصهيوني ، فحذرت واحتطت من جميع القادمين سواء أكانوا مناضلين حقيقيين ، أو عملاء مندسين ، وحادثتهم باللطف واللياقة الدبلوماسية والكلام الخفيف واللجوء للنوم للاسترخاء استعداد مني لجولات تحقيق مضنية قادمة ، متنوعة ومتعددة الأشكال والألوان ، وأعاملهم وكأنهم أعداء جاؤوا لاستكمال التحقيق معي داخل الزنزانة اللعينة ، التي يغيب عنها الضوء الشمسي تماما ويزعجنا نهيق وزعيق صوت دار الإذاعة الصهيونية وأصوات جنود الاحتلال الذين ينهقون كالحمير ، ويغنون بأصوات مزعجة ليلا ونهارا ، ونحن نتلوى نفسيا وجسديا ، متسلحين بالإيمان والصبر والمصابرة والمرابطة في أحلك الظروف وأصعبها على الإنسان .

إغماءات المعتقلين بزنازين رام الله

أثناء مكوثي في زنازين رام الله ، شاهدت بعض المعتقلين الذين أغمي عليهم مثلي مرتين ، جراء التعذيب والشبح المتواصل النكد ، دون رحمة أو شفقة ، فقد شاهدت ثلاثة معتقلين ، فرادى ، كلما أخرجت للشبح والصلب ، بين الحين والآخر ، ويقوم جنود الاحتلال باستدعاء أطباء مفترضين لعلاجهم فينقلون للمشافي العسكرية ثم يعودوا أدراجهم للزنازين بعد ساعات قليلة . وكان أطباء اليهود لا يصدقون ويتهمون في كل مرة المعتقلين بتمثيل المرض للخروج من ردهات الزنازين . وكان ضباط وجنود الاحتلال الصهيوني يضطرون لفتح الشباك الصغير للزنزانة أحيانا لدخول بعض الهواء والأكسجين لتحاشي الإغماءات للمعتقلين الذين يجري التحقيق معهم في ظروف صحية قاهرة وسخونة شديدة في درجات الحرارة .

أول عيد لي بزنازين رام الله
السجين الفلسطيني والسجان الصهيوني في سجن واحد


لأول مرة ، حل وهل أول عيد علي ، وهو عيد الفطر السعيد ، عام 1983 ، وأنا في زنزانة حقيرة صغيرة من زنازين سجن رام الله المركزي ، التابع ( لمصلحة السجون الإسرائيلية ) ، فقد جاء ذلك العيد الرمضاني ، وحالتي الاعتقالية متعبة ، جراء حجب الأكسجين وقلة دخول الهواء للزنزانة التي أسكنت بها ، دون وجه حق قانوني أو سياسي أو إنساني ، وسمعت التهليل والتكبير إيذانا بقدوم عيد الفطر ، من مساجد رام الله ، وسط الضفة الغربية المحتلة بفلسطين المقدسة ، وسمعت أغاني بالعبرية يرددها جنود الاحتلال الصهيوني ، السجانين ، لزيادة إيلامنا ، الديني والنفسي ، ونحن لا نبالي بتلك السخافات والسفاهات ، من أولئك السجانين السفهاء الذين عذبونا ، بلا مبرر أو داعي حقيقي ، ونحن تحت التعذيب والترهيب والقهر النفسي والجسدي ، فلم نكن نملك الخروج للفورة أو النزهة الصباحية أو المسائية ( كالأسرى المعتقلين الآخرين ) في السجن نفسه ، سجن رام الله المركزي ، بدعاوى أننا تحت التحقيق والاستجواب الصهيوني اللعين ، ولكنني بدور بادرت للتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والحوقلة لله رب العالمين ، من قلب الزنزانة ، فرد علي بعض جيراني في الزنازين اللعينة ، فلعنا الزنازين ومن بنى الزنازين ، وصبرنا ، ومضى العديد بلا جد و لا جديد لنا ، بل مر كالنكد من أهل التنكيد ، فجازى الله من كان السبب ، ومن تسبب في هذا العذاب الأكيد ، فالله هو الحميد المجيد ، المبدئ المعيد ، الفعال لما يريد .

النقل لزنازين المسكوبية بالقدس المحتلة

بعد أسبوعين من المكوث بزنازين رام الله المشؤومة ، جرى نقلي عبر جيب عسكري صهيوني ، بوجود جنود من الدروز واليهود ، مكبل اليدين والرجلين ، ومعصوب العينين ، للزنازين بسجن المسكوبية ، حيث أنزلت هناك في زنزانة وحدى ، بمساحة أربعة أمتار مربعة بها فاصل بين السكن والمرحاض فكنت أصعد على الفاصل المبني من الطوب وأغني بصوت عالي نشيد ( طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ) وصرخات الجنود الحراس تهوش بالقرب من الزنزانة ( شكيت شكيت باللغة العبرية ومعناها – أسكت اسكت باللغة العربية ) ، وتركت على هذا الحال وسط إهمال ليومين متتالين ، وأنا أنشد نشيد الأنصار بيثرب – المدينة المنورة - لاستقبال المصطفى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ( طلع البدر علينا ) ، ويبدو أن كل الزنازين حولي كانت مليئة بالمعتقلين ، جرى شبحي مرات ، ثم أعدت للزنزانة الحقيرة الجديدة بمسكوبية مدينة القدس المحتلة التي نرنو أن تكون عاصمة دولة فلسطين المنتظرة بفارغ الصبر والسلوان ، ولم يتم تزويدي بالطعام خلال يومين إلا مرة واحدة وهي عبارة عن شطيرة صغيرة من خبز الفينو وشريحتين من شرائح الباذنجان المقلية الخفيفة . وكنت صائما طيلة الوقت مواصلا الليل النهار ما عدا شرب بعض الماء بعد الغروب ودخول موعد آذان المغرب ، أو قبل دخول موعد آذان الفجر ، قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر والحمد لله رب العالمين دائما وأبدا .

في زنزانتي معتقل فلسطيني .. برجل صناعية

وبعد ذلك أحضروا لزنزانتي المشؤومة ، شاب طويل القامة ، برجل صناعية طويلة ، إدعى أنه فلسطيني يدرس في يوغوسلافيا ، وتطوع مع قوات الثورة الفلسطينية ، لمواجهة العدوان الصهيوني في لبنان ، ثم اعتقل ، وسط شكوكي بذلك ، فأنا كنت قد درست قليلا في الجامعة اللبنانية في بيروت ، بقسم العلوم السياسية والإدارية ، ثم تركها لأسباب الحرب المدمرة ، ومنعي من السفر مسبقا من الاحتلال الصهيوني ، فعرفت المكيدة الخادعة الظالمة الجديدة ، فحدثته بصورة اعتيادية حيث مكث عندي بالزنزانة بضع ساعات بأحد الأيام ، ثم جرى سحبه لاحقا ولم يعد يراني أو أراه مطلقا ، دون أن أتطرق لما يحدثه عن لبنان وغيرها ، ولا لأي شيء يمت بصلة للثورة الفلسطينية ، ومرت الأمور بسلام بحمد الله ورعايته .

الفحص الإلكتروني تحت جهاز الكذب .. من يحقق مع من ؟؟!


وفي أحد الأيام جرى استدعائي من خبير صهيوني ، عرف على نفسه بأنه أكاديمي يهودي بالجامعة العبرية بالقدس ، ويريد فحصي على ( جهاز كشف الكذب ) واعدا ومتوعدا لي بقول الحقيقة ، لئلا يكتشف الجهاز الإلكتروني ( كذبي المتعمد أو الطارئ ) . فأستقبلني استقبالا حسنا ، كاستقبال الثعلب لفريسته ، وربط الأسلاك الكهربائية بجسدي ، ورأسي ، شارحا لي طبيعة عمل الجهاز الأكذوبة ( أكذوبة الأكاذيب ) . وشخصيا كنت أرتعد بدنيا لا خوفا ولكن من جراء نقلي من الزنزانة بدرجة حرارة تقارب 50 درجة مئوية ، إلى درجة حرارة منخفضة لا تزيد عن 10 درجة مئوية ، وتعمدت إجراء الشهيق والزفير ، فأضطر لوقف المكيف اللعين ، الذي أصابني بالأنفولونزا الشديدة والعطس القوي متظاهرا الشعور النبيل معي وأنا ممتعض وكلي ألم . وحاول تلقيني بعض الكلمات أرددها بكلمة : نعم ، لا ، ولا أنطق بغيرها بتاتا ، وأنا لا ألقي له بالا ، وأنشغلت بمرض الأنفلونزا الجديد . ففهمت المقصود ، وهو الإيقاع الدنيء بطالب جامعي أمثله بشخصيتي ، القوية العنفوان والإعتزاز بالنفس والكرامة الإسلامية والإيمانية . وكان هذا الشرير ، الأفاك الأثيم ، الكذاب الأشر ، هو وزمرته الحاقدة ، قد أعد عشرات الأسئلة الأكاديمية ، العادية ويخلط بينها الأسئلة السياسية والعسكرية المنشودة له ولجهازه الشرير ، فمكثنا طويلا ، هو يسأل وأنا أجيب باللغة العربية . ومن مهازل الأسئلة : هل هناك باب ؟ هل هناك شباك ؟ ثم يتبعها بسؤال استخباري : هل أنت مسلم ؟ هل أنت فلسطيني ؟ هل أنت مواطن ؟ هل أنت عضو بمنظمة التحرير الفلسطينية ؟ هل أنت عضو بمنظمة فتح ؟ هل أطلقت الرصاص على أحد ؟ هل أكملت تعليمك الجامعي ؟ هل تسكن بمدينة ؟ هل تسكن بقرية ؟ هل تسكن بمخيم ؟ هل تؤيد الكفاح المسلح ؟ هل تؤيد المنظمات التخريبية ؟ هل تؤيد الحركات الفلسطينية ؟ .... وهل ... وهل .. ؟؟! يا لها من أسئلة خادعة وماكرة غير وجيهة ، فتبا لذلك الأكاديمي اليهودي ، ولذلك الجهاز الإلكتروني الحقير . وكنت أجيب دائما بإجابات شارحة موضحة وإنشائية بصوت عال أو منخفض حسب طبيعة ما افهمه من السؤال الخبيث اللعين ، عكس ما يطلب ، فأنا لم أكن متعودا على هذه الأسئلة بالطريقة الأمريكية الفجة والاستخبارية الجامحة ، التي لم نتعود عليها لحسن حظنا سابقا في الجامعة . فمثلا عند سؤالي : هل هناك باب ؟ فأجيبه ، نعم وقد دخلت أنا وأنت الاثنين والجهاز منه . فيمتعض كثيرا ؟ ويقول لي هل أنت طالب جامعي ؟ فأجيب نعم ، أنا في السنة الثانية بقسم العلوم السياسية بجامعة النجاح القريبة من قريتي عزموط بسرعة عادية متناهية في الدقة . فيسبني ويشتمني ، ثم يتأسف لي ؟ ويقول لم أكن أقصد إهانتك ؟ ويطلب مني حثيثا تنفس وخذ راحة ، وأرجو أن تجيب بهدوء بنعم أو لا ، ثم يحاول إقناعي بالإجابة النموذجية كما حددها هو ، فأقول له إقتنعت سل ما بدا لك بهدوء أنت أيضا ، فلا ترهقني ؟؟ ثم يعاود المرة تلو المرة ، أحيانا أجيبه على الأسئلة كما يريد وأحايين كثيرة أجيبه بالإجابات الإنشائية التقليدية العادية بكلام مبعثر غير مترابط بتاتا . فمكثنا طويلا على هذا الحال والمنوال ، ثم قال لي مستنكرا ومستفسرا ومهددا متوعدا ومحذرا : من يحقق مع من ؟؟؟ فقلت له أنه هو المحقق وأنا المحقق معه ؟ فقال لي يا خبيث أنت تتعامى عن الإجابات التي يجب أن تجيب عليها بنعم أو لا وتصر على الإجابة بعبارات وكلمات مطاطة طويلة ، فقلت له هذا ما عندي ، ولن تغير طبيعتي من أجل هذه الكرتونة الآلية .
لقد تم تمريري مرتين في يومين متتالين على هذا الجهاز ( جهاز كشف الكذب ) ولما زهق ، وتعب مني ، وتعبت منه ، سبني وشتمني ، وطلب من جنود الاحتلال إرجاعي للزنزانة المقيتة مرة أخرى . معلنا نفوره وعدم توصله لما يبغي . وقال لي زاعما ومدعيا ومتهما : أنت لا تقول الحقيقة !! وسيتم تعذيبك ، وكنت أريد إنقاذك من التعذيب ؟؟ فقلت له لا شيء عندي مما تريد أن أعترف به زورا وبهتانا ، فأقتلوني فلن أعترف بشيء لم أفعله بتاتا ؟ والموت مرة واحدة .

الأسير المعتقل كمال شحادة مر من هنا ؟!! معتقل المسكوبية ..

وبعد ذلك جرى ، نقلي لغرفة المعتقلين المواقيف من الفلسطينيين المناضلين الحقيقيين والعملاء المندسين المفترضين ، لاستكمال التحقيق الخفي ، فاستبشرت خيرا لقرب الإفراج عني ، وسط تعظيم الأشخاص لأنفسهم ، فهذا من فتح وذاك من الجبهة الشعبية وذاك من الديموقراطية .. وهكذا دواليك . ويحاولون التقرب مني والتعرف علي وأخذ المزيد من المعلومات عني ، وعن أسرتي وحياتي ونشاطاتي ، فأجيبهم أحيانا بإيجاز شديد ، فيملون مني ويبتعدون عني ، وأنا لا ألقي لهم بالا بأي حال من الأحوال وأمارس حياتي الطبيعية في قراءة القرآن المجيد والصلاة وكنت تناول كسرات الطعام وشرب بعض الماء عندما يأتي مواعيد الوجبات في غرفة مخصصة للطعام ثلاث مرات . وذات مرة أكتشفت عصفورا ( عميل مندس بين السجناء الفلسطينيين ) أصلع ذو شعر شايب ، وعمره أكثر من خمسين عاما ، فقد صلينا المغرب والعشاء جماعة ، كل فرض على حدة ، وكان يؤمنا في الصلاة ، وبعد صلاة العشاء ، خلع الكثير من ملابسه وبدأ يرقص رقصات جنونية ؟ فعرفت واقع الغرفة الموبوء بالجواسيس الذين يحاولون كالكلاب اصطياد فريسة آدمية ، بريئة لإيقاعها والتغطية على أنفسهم بالصوم والصلاة . وأذكر بعد خروجي من ذلك السجن أنني تعرفت على عدد من الشباب الفلسطيني المجاهد والمناضل بعضهم من حركة فتح والآخر من الجبهة الديموقراطية وغيرها كانوا في تلك الغرفة الموبوءة وخرجوا سالمين غانمين . وكنت ألاحظ كتابة بعض الأسماء منقوشة على جدران الزنازين وغرف معتقل المسكوبية : فلان مر من هنا ، حركة فتح مرت من هنا ؟ وهذا ما كان يؤكد لي أن معتقلين وأسرى فلسطينيين آخرين مروا في نفس الظروف الاعتقالية الرديئة التي مررت بها من تعذيب نفسي وبدني وجسدي وإلكتروني لعين من الملاعين والمغضوب عليهم في العالمين ، مما يزيد من إصراري وثباتي ويقيني على مبادئي ورسالتي الإنسانية والوطنية والإسلامية الشاملة الجامعة . فبادرت بدوري ونقشت أسمي : الأسير المعتقل كمال شحادة مر من هنا ؟!! أو ( أبو شحادة ) مر من هنا ؟

الإفراج عني من السجن وسرقة نقودي

وفي ذات يوم ، جاء حارس السجن اليهودي ( الشوتير ) ونادى : كمال إبراهيم محمد علاونه ، جهز حالك ؟ وسط ترديد المعتقلين بغرفة المواقيف : شحرور .. شحرور .. شحرور باللغة العبرية يعني : إفراج ، إفراج ، إفراج ، باللغة العربية ، فقال ستنقل لرام الله ، فقلت لهم ، ليس إفراج ولا شحرور وإنما نقل لزنازين رام الله ، لأن بقية أمتعتي هناك في سجن رام الله البغيض ؟ فنقلت لغرفة من غرف رام الله لبضع ساعات ، ثم جاء حارس السجن ، واصطحبني ، لغرفة أمانات الأسرى المعتقلين ، وجرى إخراجي من السجن فتفقدت أموالي ووجدت أنها قد سرقت مني ، لم أنبس ببنت شفة ، وخرجت للهواء الطلق لمدينة رام الله . وأعلمت سائق الحافلة التي اقلتني من رام الله لنابلس أن نقودي قد سرقت مني في السجن ، وليس معي ما أدفعه أجرة النقل ، فتعاطف معي ورحب بي أجمل ترحيب ، وقال لي إذا كنت بحاجة لفلوس أخرى فخذ ما تحتاجه ؟ حمدت الله كثيرا ، وقلت له جزاك الله خيرا ، بارك الله فيك لا أريد شيئا غير نقلي وسوف أحضر له أجرة الباص لاحقا ، فأبى ، وأبدى سخطه على جيش الاحتلال الصهيوني .
لقد كنت مظلوما في الوشايات المضادة ، والمداهمات الحاقدة ، والتحقيقات الشاذة ، والتعذيبات البدنية والنفسية المتتالية ، ولكنني كنت صابرا مرابطا في سبيل الله ، لا تثنيني كل هذه الخزعبلات والأساطير الدنيئة السافرة ، والهرطقات العابرة ، فقد عبرت كلمح البصر بل أسرع من ذلك ، عندما أتذكرها ، والله العزيز الحكيم أسال أن يضاعف حسناتي وصبري ومثابرتي ، وأن يكتبها في ميزان حسناتي يوم القيامة وأن يجازي هؤلاء الظلمة الصهاينة والفئة العميلة الباغية التي ساهمت في اعتقالي وعذابي ضمن المعذبين في الأرض وفق قانونه العادل فهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين وإليه المصير . إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أني أسالك العفو والعافية في الدنيا والآخرة . اللهم أجرني في مصائبي وأخلف لي خيرا منها حياة سعيدة حميدة في الدنيا والآخرة ، واللهم اجعلني من الطائفة المسلمة المنصورة الثابتة على الحق والدين حتى يأتيني اليقين إنه على كل شيء قدير .
==========================
تجربتي الإعتقالية الثالثة – 6 شهور إداري
سجني الجنيد وبئر السبع الصهيوني
28 آب 1985 – 28 شباط 1986

نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي

استضفت أحد الأصدقاء من أعضاء اللجنة اللوائية للجان الشبيبة للعمل الاجتماعي في محافظة نابلس ( إبراهيم خضر ) من قرية بيتا بمحافظة نابلس ، في بيتنا الكائن بقرية عزموط في 28 آب – أغسطس 1985 ، وتناولنا طعام العشاء معا ، وسهرنا على حفلة شاي خفيفة ، ثم طوينا فراشنا للنوم في غرفة الضيوف الأرضية المعدة لاستقبال الضيوف أو الزوار ليلا أو نهارا ، في البيت الصغير المتواضع ، المبني على الطراز الاسمنتي القديم ، وهي غرفة متواضعة ، ولم ننم سوى وقت زمني اقل من ساعتين ، وإذا بقوات كبيرة من جيش الاحتلال الصهيوني ، برفقة ضابط مخابرات ، يداهمون البيت الصغير ، بطابقيه الاثنين وغرفه الست ، ومنافعه ، ويطرقون أبواب الدار الخارجية والداخلية بقوة ، وكانت الغرفة التي ننام بها مستورة وغير كاشفة للخارج ، ففتحنا الباب فورا ، باب غرفتي التي أنام فيها أنا وصديقي إبراهيم ، الطالب بجامعة النجاح الوطنية بنابلس ، كان مساء متأخرا وصباحا متقدما ، غير سعيد ، فالطارق هو قوات مدججة بالسلاح من جيش الاحتلال الصهيوني . فقال ضابط المخابرات الصهيوني باللغة العربية : من كمال فيكم ؟ فقلت له أنا ، ما بك ؟ ما الأمر ؟ لماذا هذا الاقتحام الهمجي المفاجئ ليلا لبيتا ؟ ولماذا لا تأتي بالنهار ؟ ولماذا هذا الكم الهائل من القوات العسكرية ؟ هل أنتم في جبهة عسكرية ؟ فقال مستهترا وضاحكا ومستهزئا ، هناك أمر اعتقال إداري بحقك لمدة ستة شهور موقع من قائد المنطقة الوسطى ( الضفة الغربية ) لأنك زعيم منظمة إرهابية تخريبية ، وتشكل خطرا على أمن الجمهور ( الإسرائيلي ) ، فعليك أن توقع على استلامه ، فقلت له لن استلمه لون أوقع عليه ، فقال لا بل ينبغي ان تستلمه ، خاطبني بجلافة كبيرة ، وجنود الاحتلال يهددون ويرفعون السلاح على بيت النار فاستلمت القرار ولم أوقع على استلامه . فقلت له متهكما هل كل قواتك أحضرتها من نابلس لتعتقلني ، ولماذا أتعبت نفسك بهذا الأمر ؟؟ فرد قائلا : يكفي مسخرة ، إلبس ملابسك وحذائك ، وتعال معنا ؟ فقلت إلى أين فقال إلى السجن ؟ فقلت أي سجن ، فقال لا يعنيك ؟ نفذ الأوامر فقط ؟ ، فأنت محكوم إداريا عسكريا لستة شهور متواصلة ، فقلت له ما هذا الظلم الجديد ضدي ؟ فقال لا داعي للاسترسال في الحديث ، فأصدقائك ستراهم معك في السجن بعد لحظات ؟؟ لم أصدق الأمر ؟ وظننته يهذي هذيانا لتخويفي وإرهابي ، وأثناء حديثي مع هذا الضابط الصهيوني اللئيم ، حضرت والدتي لغرفة نومي ، وصارت تناقش هذا الضابط وتصفه بالوحشي وغير الأخلاقي ، والاعتداء على حرمة البيوت ليلا ، فلم يناقشها بأي كلمة ، واكتفى قائلا سنأخذ كمال معنا لستة شهور ثم يرجع لكم إلى البيت . حرت في أمري ، لنفسي ، وصديقي الضيف ، فكلانا سيتم اعتقاله ، لا مناص من ذلك ، ولا مجال للتخفي والهرب ، فجميع ساحات الدار مليئة بجنود الاحتلال ، ويمنع والدي ووالدتي من الاقتراب مني ، وكذلك منع جميع إخوتي وأخواتي من وداعي والاقتراب مني ، ولكن والدتي اقتربت مني بسرعة وعانقتني بحرارة ، فقلت لها لا تخافي ولا تجزعي بتاتا . ومن جهة ثانية ، تم اعتقال ضيفي إبراهيم وسط مدافعة والدتي عنه ، قائلة إن هذا الشاب هو ابن أختي ، وجاء يزورنا وينام عندنا لأول مرة ، وعلمت فيما بعد أنه تم الزج به في سجن آخر ، لمدة 18 يوما ثم أطلق سراحه ، أما أنا فبقيت ستة شهور في الزنازين والسجن الصهيوني .
نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي

لقد كانت جامعة النجاح الوطنية موصدة الأبواب ، بقرار عسكري صهيوني ، ولما يتبق على تخرجي في جامعة النجاح الوطنية سوى الامتحانات النهائية يعني أسبوع واحد ، وكنت أعزبا ، ولكن قوات الاحتلال أغلقت الجامعة بقرار فوقي ، ومنعت عدة آلاف من إكمال مسيرتهم الجامعية للفصل الثاني ، وكنا ننتظر قرار فتح الجامعة للتخرج في قسم العلوم السياسية والصحافة ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، لقد تعوقت عملية تخرجي ، وأملي بنيل الشهادة التي كنت ابتغيها في العلوم السياسية والصحافة .
على أي حال ، إقتادني جنود الاحتلال وسط حراسة أمنية مشددة ، وكأني مسؤول عسكري أو وزاري أو تنظيمي كبير ، وأنا لا أعرف مدى أهميتي وحجمي الرفيع بهذا القدر من الاستعراض العسكري الصهيوني ولهذه الدرجة من المباغتة . جروني بشدة وجعلوا يركضون بي لمسافة بعيدة تبعد عن بيتنا لنحو 300 م ، حيث أوقفوا معظم جيباتهم ( لاند روفر ) ، وحضر جيب أو اثنين من الجيبات العسكرية للتمويه خوفا من الهرب المتوقع لي من البيت . وأنا لم أفكر بالهرب إطلاقا ليقيني بأن القرية جميعها محاصرة ، وجميع الأزقة والشوارع مليئة بجنود الاحتلال الذين ناف عددهم عن الخمسين جنديا بواقع أكثر من 10 جيبات عسكرية .
نقلوني لمقر الحاكم العسكري الصهيوني بمدينة نابلس المحتلة ، وكانت يداي مربوطة للخلف وعيناني معصوبتان ، وأجلسني جنود الاحتلال بينهم ، وقال لهم ضابط المخابرات الصهيوني بتهكم علني واضح ، واستفزاز عنصري ، على مسمعي ، هذا رجل سياسي كبير فلا تضربوه ، ولكنهم لم يمتثلوا لذلك ، فضربوني على رأسي وعلى بقية أجزاء جسدي ، وقالوا لي أنت مخرب كبير ، وزعيم عصابة كبيرة تشكل خطرا على الأمن الإسرائيلي ؟ فقلت لهم بل طالب يقترب من التخرج بجامعة النجاح الوطنية بنابلس ، فقال لي أحدهم : هل أنت فلسطيني ؟ فقلت له : أنا عربي مسلم فلسطيني ، لماذا هذا السؤال العجيب ؟ فلكمني بيديه وبأعقاب بندقيته ؟ ووسط تلقي الكدمات والضربات على جميع أجزاء بدني ، مسافة 4 كم ، وهي المسافة التي تبعد قريتي عزموط عن مقر الحكم العسكري الصهيوني على طرف مدينة نابلس من ناحية الشرق . طلبت أن اذهب للخلاء فبعد وقت ليس بالقصير جاؤوا وفكوا عصابة عيوني ، وتكبيل يدي ، فنظرت يمينا وشمالا ، وعرفت بعض زملائي ، أمين مقبول ، ومحمد عودة ، وغيرهم ، فقلت في نفسي ، هذا جمع غفير من قادة حركة فتح في نابلس ، وفي عصر ذلك اليوم 29 آب 1985 ، نقلنا لزنازين طولكرم ، وكان الوضع مكهربا ، ووضعوني في زنزانة مع صديقي محمد عودة حنني ، ويبدو أنهم كانوا يجمعوننا في زنازين طولكرم من مختلف أنحاء الضفة الغربية ، ثم نقلنا لاحقا ، إلى سجن الجنيد المركزي الصهيوني ، الذي تشرف عليه ( مصلحة السجون الإسرائيلية ) جرى فحصنا طبيا ، وتم تسلم أماناتنا منا ، وأدخلنا في قسم للمعتقلين الإداريين ، بجانب أقسام الأسرى الفلسطينيين المحكومين والمواقيف بانتظار المحاكمات الخيالية الصورية .
كانت هذه المرة هي الأولى في تاريخ حياتي التي اعتقل فيها اعتقالا إداريا من بيتي ، دون الحاجة للتوقيف أربعة أيام ثم التمديد لثمانية عشر يوما ثم الاعتقال الإداري المسبق بلا محاكمة عسكرية صورية خيالية كما هو حال الأسرى الفلسطينيين فالتهم كانت جاهزة .
عشنا في قسم المعتقلين الإداريين ، وسط ذهول فلسطيني ، وعربي ودولي ، حول كيفية وآلية اعتقالنا السياسي بلا رحمة أو هوادة ، تم تجميع حوالي 80 معتقلا إداريا ، من مختلف أنحاء الضفة الغربية المحتلة ، من المدن والقرى والمخيمات ، وكان التركيز على الجامعات والمعاهد العليا لحركات الشبيبة الطلابية ( حركة فتح ) وجبهات العمل الطلابية ( الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ) ، وكتل الوحدة الطلابية ( الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين ) ، وكنت من الفئات الصغرى سنا ، ذات النفوذ الجماهيري الوطني الكبير، حيث كنت نائبا للأمين العام للإتحاد العام للجان الشبيبة للعمل الاجتماعي في الأرض المحتلة ( الضفة الغربية وقطاع غزة ) ، وما لبثت قوات الاحتلال الصهيوني حتى اعتقلت الأمين العام للجان الشبيبة للعمل الاجتماعي بالأرض المحتلة ( توفيق البرغوثي ) من قرية كوبر برام الله لاحقا لمدة ثلاثة شهور . وكانت الاعتقالات الإدارية مركزة تركيزا كبيرا على أنصار حركة فتح في الضفة الغربية ، وما لبثت قوات الاحتلال إلا أن أعتقلت عشرات الكوادر الطلابية والنقابية والاجتماعية والصحية في قطاع غزة حيث التقينا ببعضهم لاحقا في سجن بئر السبع بالنقب المحتل جنوبي فلسطين .
لقد نشرت صحيفة القدس ، اسمي في المانشيت الرئيسي لها صبيحة 29 / 8 / 1985 ، وكانت يتم التركيز الإعلامي وتسليط الأضواء علي ، كون جميع الصحافيين بنابلس وجزء كبير من صحافيي القدس ، كانوا يعرفونني قبل الاعتقال ، وأخذت قضية اعتقالنا الإدارية زخما صحافيا وإعلاميا وسياسيا كبيرا ، في شتى الصحف ووسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والدولية ، فهذه هي المرة الأولى في العقد الثامن من القرن العشرين ، التي تتم بموجبها هذه الاعتقالات الإدارية الجماعية لكوادر طلابية ونقابية واجتماعية واقتصادية شاملة .
على العموم ، عمد المعتقلون الإداريون الفلسطينيون داخل سجن الجنيد المركزي الصهيوني ، قرب قرية جنيد الفلسطينية ، على تنظيم أنفسهم ، وفق تركب إداري هيكلي لإدارة شؤونهم الداخلية ، وكان لي نصيب في هذا التشكيل الهرمي ، الذي قاده الأسير الإداري مروان البرغوثي ، من حركة فتح ، بصفته صاحب خبرة اعتقالية سابقة ، ورئيسا لحركات الشبيبة الطلابية في الجامعات الفلسطينية في الأرض المحتلة ، وساعده في ذلك سمير صبيحات رئيس مجلس طلبة جامعة بير زيت سابقا وآخرين .
وحسب أنظمة الاعتقال الإداري الصهيونية ، فهناك اعتراض على هذه الأوامر العسكرية أمام محكمة نابلس العسكرية الصهيونية بعد فترة معينة ، فقدمنا اعتراضا ، وكنت من بين من قدم الاعتراضات على أمر اعتقالي الإداري ، كونه قرارا ظالما وتعسفيا من الناحية القانونية حتى الصورية المعمول بها في أروقة المحاكم العسكرية الصهيونية الخيالية . فخفضت لي فترة الاعتقال الإداري بمدة ثلاثة شهور ، كبعض المعتقلين الإداريين ، ويبدو أن ملفي الأمني السري كان غير موثقا ومؤرخا لدى أجهزة المخابرات الصهيونية ، كما أفادتني محاميتي التي كلفتها إدارة جامعة النجاح الوطنية للدفاع عن طلبتها الأسرى المعتقلين إداريا ، وهي المحامية اليهودية التقدمية ( فليتسيا لانغر ) وبذلك فقد نزل حكمي الإداري ، لثلاثة شهور فقط ، أسوة بزميلي الأمين العام للاتحاد العام للجان الشبيبة للعمل الاجتماعي في الأرض المحتلة ، وجرى الهرج والمرج في ساحة المعتقل ، فقد كانت سوابق قانونية في هذا المجال تبعها تخفيض لقرارات إعتقال إدارية للكثير من زملائي من شتى الحركات والفصائل الوطنية .
وتمر الأيام ، ونحن داخل السجن ، ويزورنا بعض الأهل ( ثلاثة زوار لكل معتقل إداري ) كل أسبوعين ، فنرى بعضنا بعضا ، الأسرى والأهل عن بعد ويفصل بيننا شبك معدني ، وزجاج سميك ، وسط حراسة أمنية صهيونية مشددة . وكان يحضر لزيارتي والدتي الكريمة ( رحمها الله ) وأخوين أو أخ ووالدي في كل مرة ، وكنت أصر على زيارة والدتي لي في كل مرة وابن أخ لي هو ( بيوض ) ، ليتيح لها إخوتي وأخواتي الزيارة المرتقبة بلا منازع وخاصة في سجن جنيد المركزي .
وحدث أن طلبت قيادة الأسرى الفلسطينيين ، من المعتقلين الإداريين تنظيم حملات توعية سياسية للمحاكيم ، فتبرعت طواعية لإلقاء جلسات تنظيمية ومحاضرات سياسية وثقافية وإعلامية شاملة تتعلق بالشأن الفلسطيني والعربي والدولي والصهيوني بصفتي شبه خريج بكالوريوس في العلوم السياسية والصحافة ، وكنت كاتبا صحفيا في بعض الصحف والمجلات الفلسطينية في القدس المحتلة . فما كان من إدارة السجون الصهيونية إلا أن أعادت محاكمتي الإدارية ، في المحكمة العسكرية الصهيونية بنابلس وثبتت قرار الاعتقال الإداري السابق لستة شهور ، والغي قرار المحكمة السابق القاضي بتخفيض فترة اعتقالي للنصف . وكانت إدارة مصلحة السجون الصهيونية في كل مرة يتم فيها استدعائي للمحكمة العسكرية للاعتراضات أو التجديد تضعني في باص كبير ، بحراسة عسكرية مشددة ، جيب عسكري من خلف الباص ( باص إيغد ) وجيب عسكري من أمام الباص الذي يجري نقلي به ، هذا بالإضافة إلى عشرة جنود على الأقل ، داخل الباص ، خمسة يقفون في الباب الأمامي ، وخمسة آخرين يقفون في الباب الخلفي للحافلة ، وكنت أتندر على الجنود واستهزئ بهم ، أحيانا هل كلكم لحراستي ؟؟ ولماذا كل هذا الاستعراض العسكري والتجييش ؟ هل تخافون أن أهرب ؟ وإلى أين أهرب ؟ وجيب عسكري أمامي وآخر خلفي ، فتتعالى صيحات الضابط المسؤول ، شكت شكت شكت باللغة العبرية ( بمعنى اسكت اسكت اسكت ) .
إنها مهزلة المهازل في المحاكم العسكرية ، كان يتم السماح لي بالحديث صوريا بلا نتيجة حقيقية أو دفاع مقبول ، حيث كنت أعد نفسي للدفاع إعدادا قانونيا وسياسيا مقنعا ، باعتراف محاميتي اليهودية التقدمية ( فليتسيا لانغر ) ، وتقول لي بلهجة عربية مكسرة لقد أبليت بلاء حسنا ، ولكن القاضي العسكري لا يهتم لذلك ، فالملف السري الأمني المزعوم أمامه ، وهو يسمعك فقط للسماح ، ولا أكثر من ذلك .
وبعد ذلك طالبنا إدارة جامعة النجاح الوطنية بتغيير المحامية اليهودية التقدمية الكبيرة في السن ، وتوكيل محام فلسطيني ( الأستاذ عدنان أبو ليلى ) للدفاع عن معتقلين إداريين ، من باب الالتزام والإلزام الوطني قدر الإمكان ، ولكن هذه المحاكم العسكرية هي محاكم صورية هزلية لا أكثر ولا اقل ولن تجدي نفعا أمام الملف السري الذي يهضم حقوق الأسير المعتقل ، ويصدق فيه أقوال الجاسوس أو المخبر العربي الذي ملأه بالأكاذيب والسفاهات والسخافات الكيدية والهرطقات لأسباب عائلية أو عشائرية أو لقاء شواكل صهيونية بخسة وباع ضميره وعقله ونفسه لشيطان الاحتلال الصهيوني البغيض . فكان شيطانا يزود الشياطين الصهيونية بمعلومات خيالية ما أنزل الله بها من سلطان ، وهذا كشف النقاب عنه ، عند محاكمة الكثير من المعتقلين الإداريين ، فكانت تهمي مثلا : مسؤول كبير في حركة فتح في الضفة الغربية ، ومحرضا كبيرا ضد الأمن الصهيوني ، ويشكل خطرا على الجمهور اليهودي في المنطقة .
وعلى كل حال ، فقد تبين لاحقا ، أن أحد السجناء في قسم 4 ، بسجن الجنيد المركزي ، من منطقة طولكرم ، كان عميلا للاحتلال وهو الذي وشى به بأنني أمارس نشاطا سياسيا ( غير قانوني ) وأنا داخل السجن ، عبر أنصاري وأتباعي خارج السجن الصهيوني فجرت عملية التمديد الجديدة لاعتقالي الإداري لتكون ستة شهور كما كانت سابقا قبل تخفيض فترة الاعتقال الإداري .
لقد مارسنا حياتنا الاعتقالية داخل سجن الجنيد الصهيوني ، بغرفه الضيقة أو المتوسطة المساحة ، والسجن محاط بسور طويل وكبير يمنع دخول الهواء والتهوية الجيدة اللازمة ، ونخرج فورة خارج الغرف لمدة نصف ساعة صباحا ومثلها مساء ، وكانت كميات ونوعيات الأطعمة ليس مناسبة ، ويوجد مرحاض داخل كل غرفة مع ما تسببه من رائحة كريهة كلما أراد أحد المعتقلين التبول أو الخروج للغائط . وكانت أسرة ( تخوت ) الغرفة الواحدة عبارة عن طبقتين ، سفلية وعلوية ، تضم سجينا في كل سرير ، وكنت أفضل السرير العلوي ، نظرا لحاجتي للقراءة اليومية المتواصلة . وتتسع الغرفة لعدد يتراوح ما بين 8 – 16 أسيرا فلسطينيا . وكنا نؤدي صلاة الجمعة في ساحة السجن الكبير بحراسة صهيونية ، ثم نعود أدراجنا لغرفنا ، وكنت شخصيا من المطالعين للكتب والباحثين فطلبت تنظيم دورة لغة عبرية لنا كمعتقلين إداريين ، أخذت بعض دروسها من زميلي الأخ مروان البرغوثي ، ثم من زميلي محمد عودة حنني كونهما أسيرين محررين سابقين ، فكنت ممن يستثمر وقته ، في المفيد ، في النقاش ، والحوارات مع الزملاء ، ومطالعة الكتب ، واستقدمت عبر أهلي ، قاموسا للغة الإنجليزية – الإنجليزية وكتبا باللغة العبرية ، لتطوير مهاراتي اللغوية حيث كنت أدرس اللغة الإنجليزية بجامعة النجاح الوطنية كتخصص فرعي للتخصص الرئيسي بالعلوم السياسية والصحافة ولي هوايات لغوية كالعبرية . وكونت علاقات اجتماعية وسياسية مع السواد الأعظم من المعتقلين الإداريين والأسرى المحكومين كذلك ، من شتى التيارات السياسية والفصائلية الوطنية الفلسطينية في السجن ، من مختلف المحافظات الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة ، لأنني تعرضت لمضايقات صهيونية جمة ، عبر المحكمة والملاحقة داخل السجن وكانت لي علاقاتي الواسعة خارج السجن . وأعددت عدة دراسات سياسية واجتماعية ونقابية عن حركات الشبيبة الفلسطينية في الأرض المحتلة والحركة العمالية النقابية الفلسطينية وغيرها ، وأعددت بحثا لاستكمال تخرجي في جامعة النجاح الوطنية كمتطلب لمساق أساليب البحث العلمي .

الإضراب المفتوح عن الطعام

ومهما يكن من أمر ، خططت قيادة المعتقلين الإداريين الفلسطينيين ، لخوض إضراب سياسي ضد أوامر الاعتقالات الإدارية الجاهزة ، ذات الأحكام الجائرة ، وجرى التعميم الإداري والتنظيمي على أعضاء الفصائل الفلسطينية الأسيرة ( حركة فتح ) والجبهة الشعبية ، والجبهة الديموقراطية ، واتفق الجميع على خوض هذا الإضراب السياسي الجزئي أولا بإرجاع الوجبات لفترات متتالية أو متباعدة ، ثم الإعلان عن الإضراب المفتوح عن الطعام ، فيما يعرف بمعركة الأمعاء الخاوية ، فأضربنا طيلة 10 أيام متواصلة ، وصدر بيان سياسي عن المعتقلين الإداريين في سجن الجنيد المركزي باعتباره السجن الذي يضم جميع المعتقلين الإداريين من الضفة الغربية المحتلة ( المصنفة صهيونيا باسم – المنطقة الوسطى ) . ومع بداية الإضراب المفتوح عن الطعام ، اقتحمت قوات كبيرة من حرس السجن الصهيوني من السجانين والمخابرات غرف المعتقلين الإداريين الأسرى ، للتفتيش والتنبيش والتخريب ، ومصادرة ممتلكات الأسرى من القرطاسية والكتب ، وأجهزة الراديو الترانستور والدخان وغيرها . علما بأن جميع المعتقلين الإداريين كانوا ألقوا ببقايا الطعام لديهم خارج غرف السجن في ( المردوان ) وهي ساحة السجن الداخلية . وكنت شخصيا من دعاة الإضراب السياسي المتحمسين ، لإثارة قضيتنا أمام الرأي العام المحلي والصهيوني والعالمي ، ولكن طبعا بلا جدوى ، وكانت الصحف تنقل تصريحات لي عبر المحامين الذين يزورونني بانتظام .
وأثناء الإضراب المفتوح عن الطعام ، لم يتحمل بعض المعتقلين الإداريين ، هذا الأمر ، المتمثل بالامتناع عن تناول الطعام لفترة طويلة ، والاكتفاء بشرب الماء ولحس بعض الملح للحفاظ على المعدة بعيدا عن التعفن . فهبط البعض بدنيا ونفسيا ، من شدة الأوجاع وخاصة من ذوي الأمراض المزمنة ، ونقلوا بالنقالات لعيادة السجن بلا جدوى ، وبعضهم واصل إضرابه عن الطعام والبعض الآخر فكه ، وبعد مضي عدة أيام تجاوزت الثمانية ، عمدت إدارة السجن لنقل نصف المعتقلين الإداريين لسجن بئر السبع وهم مضربون عن الطعام مما زاد الأمر رهقا وتعبا ، وبقي النصف الاخر ، في سجن الجنيد ، والقي بقيادة المعتقلين في الزنازين لإبعاهدهم عن التأثير على بقية المعتقلين ، وتضامنت معنا الأمهات عبر الاعتصام بمقر الصليب الأحمر في العديد من مدن الضفة الغربية ، وعلمت أن والدتي الحنونة مع الكثير من النسوة الفلسطينيات أمهات المعتقلين ، كن يعتصمن ساعات طويلة أثناء إضرابنا المفتوح عن الطعام ، للتعبير عن التضامن الشعبي والأهلي مع المعتقلين السياسيين . وبعد اليوم العاشر فك الإضراب المفتوح عن الطعام ، بعدما أحدث رجة إعلامية كبيرة في فلسطين والعالم . وكان الأهل لدى زيارتنا في سجن بئر السبع في النقب بفلسطين المحتلة عام 1948 ، حيث مكثت أكثر من نصف فترة اعتقالي الإداري تقريبا يتعبون حيث يتوجب عليهم القدوم منذ ساعات الصباح الباكر في حافلات توفرها جمعية الصليب الأحمر الدولي والعودة عند ساعات المساء المتأخرة .

ابتعدوا عن الفدائي ( كمال شحادة )

وفي 28 شباط 1986 ، نقلت بحافلة صهيونية لمنطقة قريبة من الضفة الغربية ، وجرى إطلاق سراحي ، وعدت سالما غانما بفضل الله تعالى ، ولكنني بعدما أصبت بمرض قرحة المعدة جراء الإضراب المفتوح عن الطعام كنوع من الاحتجاج السياسي على سياسة الاعتقال الصهيونية بلا محاكمة . ثم تابعت مسيرتي الجامعية ، ونلت درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والصحافة بجامعة النجاح الوطنية بعدما أديت الامتحانات النهائية وصدرت شهادتي في 29 نيسان 1986 ، بعد تأخير حوالي سنة بفعل الإغلاق الصهيوني للجامعة والاعتقال الإداري الصهيوني الذي صدر بحقي وأنا نائم في بيت أسرتي . إنها قمة الوقاحة والعنجهية والصلف الصهيوني تجاه حقوق الإنسان الفلسطيني ، صاحب البلاد الأصلي من ثلة من الطارئين الغرباء على الأرض الفلسطينية المقدسة .
وكنت داخل القرية أعاني من خوف عشرات الشباب من المشي معي أو الوقوف معي في أحضان شوارع قريتي عزموط بمحافظة نابلس بسبب خوفهم من إلصاق تهمة الفدائي أو الإرهابي بهم لأن القرية كانت مليئة بالوشاة والعملاء الظاهرين المكشوفين جهارا عيانا ويتبجحون في هذا الأمر السفيه مثلهم . ولكننا أنا والشباب الوطني وخاصة الجامعيين وطلبة كليات المجتمع ، كنا نلتقي لساعات طويلة في بعض شوارع القرية البعيدة ، وفي ساحات الحرم الجامعي بجامعة النجاح الوطنية بنابلس ، حيث كانوا يحضرون لعندي بالجامعة بانتظام وبعد الانتهاء نذهب نتمشى في شوارع وأزقة نابلس . وفي القرية ، كنت اسمع أطفال القرية الكبار في السن ما فوق العاشرة وحتى السابعة عشرة يخاطبون بعضهم البعض ( هذا فدائي .. ابتعدوا عن الفدائي ) وكذلك كانت النصائح من الكبار في السن لي بعدم الاشتراك بالفعاليات الوطنية لتجنب الحبس لدى الاحتلال ، نظرا للمواطن الوطني الفلسطيني المعذب ، الذي كنت أمثله بنظرهم بسبب اعتقالاتي المتلاحقة من قوات الاحتلال الصهيوني ونشاطات الاجتماعية والسياسية الكثيفة . وكنت بقدر ما أعتز بهذه التسمية الوطنية ومناهضة الاحتلال الصهيوني فإنني كنت أتضايق جدا من انتشار وباء العمالة وتخويف الأولاد والشباب من مصاحبتي ومرافقتي خوفا على أبنائهم من أذى الاحتلال الوحشي ، خاصة وأن كل من كان يعتقل لدى الاحتلال بمحافظة نابلس ، من القرية وخارجها ، يجري التحقيق معه عن مدى وطبيعة علاقته السياسية معي باعتباري ( قائدا كبيرا في الشبيبة التابعة لحركة فتح ) . وكان يبلغني الشباب الذين اعتقلوا بأنهم جرى التحقيق معهم بشراسة عن طبيعة علاقاتهم معي ( كمال شحادة ) .
على أي حال ، لقد عانيت كزملائي الأسرى المعتقلين الإداريين بدنيا وصحيا ونفسيا ، من وحشية الاحتلال الصهيوني ، وتبعية الإضراب المفتوح عن الطعام ، التي لاحقتي طيلة ثلاث سنوات عجاف وأنا أتناول مضاد القرحة والحموضة الشديدة بمعدتي ، فتناولت مادة ( الراتادين ) ذات الكلفة المادية العالية ، بواقع ثلاث وجبات يوميا ، وحرمت من تناول الشاي والقهوة والمشروبات الساخنة . ولكن معنوياتي وهمتي النفسية والسياسية كانت عالية جدا حيث نظمت مهرجان عرسي في 1 و2 أيار 1986 ، باحتفال جماهيري شعبي فتحاوي من أبناء وأنصار الشبيبة للسهرة من محافظات الضفة الغربية الشمالية من نابلس وطولكرم وجنين وقلقيلية ، مدنا وقرى ومخيمات ، ومن جامعات النجاح الوطنية بنابلس ، وجامعة بير زيت ، وكلية الروضة بنابلس وكلية خضوري بطولكرم وغيرها . وأحيا الحفلة الزجالان : فريد الجبعي ورضوان بداد ، من جبع جنين ، وفرق دبكة شعبية ، وموسيقى ويرغول وشبابة وغيرها .
نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي

فمنح هذا المهرجان الشعبي التقليدي الفلسطيني زخما كبيرا مدويا لحركات الشبيبة الفتحاوية التي حاولت قوات الاحتلال الصهيوني إفشالها ، وذبحنا 7 أكباش من الخراف الكبيرة لإطعام المدعوين بعد زفة العرس فقط غير الأطعمة التي أعددناها بعد حفلة السهرة التي تسبق العرس . فبعد الحرمان المؤقت في سجن الاحتلال الصهيوني فرحت فرحتين متتاليتين هما : التخرج في الجامعة ، والزواج الإسلامي بحفل بهيج أي بعد شهرين من الخروج من السجن الصهيوني . فانتصرنا لإسلامنا العظيم ووطنيتنا المتصاعدة نحو العلى والأعالي ومجدنا الحركة الأسيرة المجاهدة والمقاتلة من أجل الحرية والاستقلال الوطني الفلسطيني . . وسلام وتحية لمن حضر وابتهج معنا .
نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي


نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي


نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي


نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي


تجربتي الاعتقالية الرابعة – 6 شهور ونيف
5 / 4 – 9 / 10 / 1988
سجن أنصار 3 – كتسعوت بالنقب


نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي

أثناء انتفاضة فلسطين الكبرى الأولى ، وبعد صدور قرار من الكنيست الصهيوني ، بجواز الاعتقال الإداري للحركات الجماهيرية الاجتماعية الفلسطينية ( منظمات ) الشبيبة وغيرها ، توقعت أن أكون في مقدمة المعتقلين الإداريين الفلسطينيين جراء هذا القرار التعسفي الذي هدف إلى تقويض الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المجيدة . وكنت أحتاط وأحذر بأن لا أنام قبل الساعة الثانية عشرة ليلا ، أي منتصف الليل ، وهي ساعة الاعتقال المعهودة لدى قوات جيش الاحتلال الصهيوني ، وفي ليلة نيسانية ، بعد ولادة ابني الثاني ( حازم ) بأسبوع واحد ، حضرت قوات صهيونية كبيرة لقرية عزموط بمحافظة نابلس بالضفة الغربية المحتلة ، قوامها حوالي 10 جيبات بأكثر من 50 جنديا واجتازت شارع بيتنا شمالي القرية بالحارة الفوقا ، وأنا أنظر إليهم من ثقوب الشباك الشمالي الخلفي لغرفة نومي الوحيدة ، فلا أعرف هل هم تاهوا فعلا عن موقع بيت أسرتي حيث أعيش ببيت واحد مع أسرتي ؟ أم أنهم تعمدوا الابتعاد عن موقع البيت للحصار والمحاصرة وذلك للإحاطة بجميع جهات البيت الأربع . فعلى جميع الأحوال ، داهم جنود الاحتلال الصهيوني البيت عسكريا موجهين بنادقهم باتجاه البيت خشية هروبي من البيت بأي اتجاه كان أو خشية وقوعهم في كمين جماهيري أو غيره كما يستعدون دائما ، ودخلوا فناء البيت عنوة قبل أن نفتح لهم الباب الخارجي ، وأبلغوني بأني مطلوب ومعتقل لديهم ، فلبست ثيابي ، وودعت أهلي ، والدي ووالدتي وزوجتي ، وطفلي الصغيرين البكر هلال والثاني حازم ، فجرجروني لمقر الحكم العسكري الصهيوني بمدينة نابلس ، حيث أصطحبني جنديان بأيديهم من ذوي اللياقة البدنية وأركضوني بسرعة من مكان البيت حتى البيادر على بعد حوالي 300 مترا جنوب المنزل في وسط القرية خوفا وهلعا منهم من الكمائن المتوقعة أو المفترضة في عقولهم الجهنمية وسط نباح كبير لكلاب القرية . وضعت في خيمة عسكرية يهودية تحمل شعار الجيش الصهيوني ( الإسرائيلي ) نصبت إلى الجانب الشرقي من مقر الحكم العسكري ، وسط عنجيهات قوات الاحتلال الصهيوني ، ويبدو أن ضابط المخابرات الصهيوني قد أوصى بي الجنود بأني - خطير جدا ) فتم عزلي وفصلي من بداية دخولي الخيمة العسكرية ، عن جميع المعتقلين بالخيمة المذكورة فحضر أحد أساتذة جامعة النجاح الوطنية فلم يسمحوا لي بالسلام عليه وتحيته ، وحضر بعض زملائي المجاهدين من بلدة بيتا المبلغين بالإبعاد لخارج فلسطين ، فلم أعرفهم لبعدهم عني أولا وجراء تدمير وجوههم من جنود الاحتلال الصهيوني بصورة جارحة ، فلم تبدو وجوههم طبيعية كالمعتاد كما أعرفهم . وفي أحد المرات حضر جنود الاحتلال لعد المعتقلين ، وقت الظهيرة وصادفت عملية العد ( الإسفيراه ) صلاة الظهر ، فجاء بعض جنود الاحتلال وأخذوا يضربون أحد الشيوخ الكبار في السن ، بشكل عنيف ، فهجنا ومجنا في الخيمة بتحريض أساسي مني ، فكان جنود الاحتلال يضربون الشيخ وهو يركع ويسجد ويقوم ويصلي فريضة الظهر ، دون رحمة أو شفقة ، فهي وحشية صهيونية معهودة في هذا المضمار غير الإنساني ، ولما لبثت أن تعرفت على الشيخ المضروب لاحقا ، بعد خروج جنود الاحتلال من الخيمة وانتهاء العدد بسلام ، فتبين لي أنه الشيخ الكبير المجاهد أحمد الحاج علي ( أبو علي ) من مخيم عين بيت الماء . وتوثقت علاقتنا في سجن أنصار 3 بالنقب لاحقا أثناء الصلاة والصيام وقراءة القرآن المجيد مع بعضنا بعضا .
على أي حال ، جهز الاحتلال الصهيوني حافلات لنقل المعتقلين المحتجزين في الخيمة لسجن الفارعة شمالي نابلس ، وكان الجو ماطرا شتاء ، في شهر نيسان 1988 ، ووضع الباص المنتظر للنقل ( من شركة إيغد ) بقرب بركة ماء نتنة ، وكلما اقترب معتقل للصعود باتجاه باب الباص يتم عرقلته ليقع في بركة الماء الوسخة ، وجاء دوري وكنت منتبها لهذا الأمر فلم يفلح الجندي في عرقلتي حيث غافلته وصعدت سريعا للباص ، ولكنه يبدو أنه حفظ شكلي ، فأوسعني ضربا بالعصا على رأسي أثناء جلوسي في أحد مقاعد الحافلة ، معصوب العينين ، وأحسست أن الدرنات برأسي كأنها درنات حبة بطاطا ، وكنت أصيح على الجندي ويزداد ضربا بي كما فعل سابقا بزميلي الشيخ أبو علي . وقد طلب منا جنود الاحتلال مدح وتمجيد اسحق شامير رئيس الوزراء الصهيوني ، وسب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ( أبو عمار ) الذي احترمه كثيرا ، بصوت عال ، فرفضت ذلك فيزداد الغضب الصهيوني علي ، وأوسعوني ضربا بالعصي وأعقاب البنادق ، والمعتقل بجانبي على المقعد الثاني واسمه حسن ، يحثني على السب والشتم لعرفات فرفضت بشكل متواصل ثم حضر أحد الضباط وطلب من سائق الباص الاتجاه باتجاه سجن الفارعة ، حيث مكثنا في الطريق ما بين خيمة مقر الحكم العسكري بنابلس وسجن الفارعة حوالي 3 ساعات علما بأن الطريق لا تستغرق سوى نصف ساعة زمنية على الأكثر ، وكل ذلك لتمكين جنود الاحتلال من الاعتداء على رؤوس المعتقلين وإهانتهم والتنكيل بهم بلا وازع أخلاقي أو قانوني أو إنساني ، فأحسسنا وكأن وحوشا من الغابة كاسرة تنقض علينا ، تحشرنا وتمارس ساديتها المجنونة علينا دون وجه حق ونحن مكبلين ومعصوبي العيون ولكن صرخاتنا تتعالى ضد المحتلين رغم القمع الدموي الرهيب .
وبعد أن بلغ منا الجهد والعرق والتعب ، وصلنا لساحة سجن الفارعة ، وهو المسلخ الصهيوني العسكري للمعتقلين ، فكمثت فيه حوالي أسبوعين ، حيث عانينا كثيرا في هذا السجن العنصري بإشراف غلاة المتطرفين اليهود ، ووضعنا في غرف السجن ، وكان في غرفتي التي أنزلت بها أكثر من 14 سجينا ، وكل له قصة اعتقالية مريرة طويلة ومؤلمة في الآن ذاته ، فدأبت على إقامة الصلاة بالأوقات الخمسة ، وحثهم على الصلاة جماعة ، وكنت إمامهم ، وكان يأتينا الطعام بكميات قليلة ونوعيات رديئة ، وكنت زاهدا في تناول الطعام لعدة أسباب منها : أنني لا أحبه بتاتا ، ويسبب لنا طلب الخلاء والإخراج ، وهذا الأمر لم يكن ميسورا ، حيث ( تمن علينا ) إدارة السجن الصهيوني بالذهاب مرتين للمرحاض ، صباحا ومساء ، بواقع دقيقتين لكل غرفة ، وهذا الأمر مستحيل طبعا ، فأين نخرج فضلاتنا ، حيث جرى التخطيط لذلك بخبث ، فيضطر بعض المعتقلين الجدد من ذوي الخبرة والدراية القليلة بالتبول في سطل أسود كبير داخل غرفة النوم مما يسبب إزعاجا وإرهاقا بدنيا ونفسيا له ولزملائه الأسرى المعتقلين ، هذا ناهيك عن تلطيخ جنبات المراحيض الجماعية في السجن ببراز كثيف ، فلم يكن للمعتقل الفلسطيني والحالة هذه ، نفسية في الإخراج والخروج أصلا ، ومكثنا عدة أيام ثم جاء يوم الجمعة فأخرجنا للصلاة ، فخرجت وتعرفت على رجل كبير كان يعمل خطاطا في نابلس ، خطط لنا مرة سابقة ميداليات نحاسية للشبيبة في محافظة نابلس ، وسررت بلقائه وعرضت عليه أن يلقي خطبة الجمعة بالأسرى كونه أكبر مني سنا ، وسيكون في منأى عن ملاحقة جنود الاحتلال الصهيوني ، وهذا ما كان ، طلبت منه إحضار قلم وورقة وأمليت عليه خطبة الجمعة وهي عن نبي الله ( يونس بن متى ) عليه السلام ، في الصبر والمصابرة والمرابطة ، والعودة لله والخروج من بطن الحوت كسجن حيواني بحري لهذا النبي المرموق ، من خيرة بني آدم ، وانتهت الخطبة بسلام دون تعرض أوباش الاحتلال للخطيب أو للمصلين وحمدنا الله كثيرا على ذلك .
وبعد ذلك ، جاء أحد المحامين لزيارتي ، وتناولت معه قضية اعتقالي ، وقلت له لن يجدي القانون مع الاحتلال الصهيوني نفعا ، كما نعلم الاثنين لخبرتنا ودرايتنا السابقة ، وطلبت منه إحضار مصحف لي من أهلي في الزيارة القريبة القادمة لأتابع عملية حفظ القرآن المجيد ، واقضي وقتا ممتازا بذلك بدل مضيعة الوقت وسط جدران الحبس في الغرف ، فوعدني خيرا إلا أنه لم يفي بوعده الذي ضربه لي وأصبح الأمر نسيا منسيا .
ثم بعد عدة أيام نقلتنا إدارة السجون الصهيونية لسجن عتليت قرب حيفا ، ووضعتني في زنزانة مع زميلي السابق الشيخ أحمد الحاج علي في خيمة نابلس العسكرية ، الذي أوسعوه ضربا وهو يصلي صلاة الظهر بالخيمة وقت العدد الصهيوني الوسطي اليومي . ومكثنا عدة أيام بالزنزانة ، فسمعت وقت الظهيرة من الإذاعة الصهيونية عملية استشهاد القائد الفلسطيني خليل الوزير ( أبو جهاد ) فبكيت مرارا بحرقة لهول الفاجعة ، فهو مهندس الانتفاضة الفلسطينية الأولى ، ثورة الحجارة والمسيرات ، وقلت في نفسي وعلنا : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم أخرجونا من الزنزانة لاحقا ونقلونا لسجن النقب ( أنصار 3 ) المعروف صهيونيا بكيتسعوت إلى خيم في الهواء الطلق ، حيث يوضع كل 28 أسيرا في خيمة واحدة وينامون على أبراش ( سرر ) خشبية ، وبطانيات وفرشات صغيرة ،وكنت أول من نزل من الحافلة الصهيونية ، فقد خاف الأسرى المعتقلين الفلسطينيين من إرهاب جنود الاحتلال الصهيوني ، بينما قرأت بعض الآيات القرآنية المجيدة ، والأدعية النبوية الشريفة ، وهبطت من الحافلة بهدوء ثم خرجت من باب الحافلة مسرعا فلم يظفرني الجندي الصهيوني ، بأي ضربة ، فقد كنت حذرا ومحترسا من ذلك ، وفي صباح اليوم التالي ، كان الزمن رمضانيا ، فصمنا لله تعالى ، رغم الألم النفسي والجراح البدني ، ومكثت في هذا السجن ريثما انتهت فترة اعتقالي الإدارية ، حتى 9 تشرين الأول 1988 . وكنت مواظبا على الصيام والصلاة وقراءة القرآن الحكيم ، وكنت لاعبا لألعاب السجن مثل الدومينو والشطرنج وننظم مسابقات يومية بهذه اللعبة ، وكنت أطالع صحف عربية وصهيونية بانتظام مثل صحيفة القدس ، وهآرتس والجروزلم بوست الصهيونيتين باللغة الإنجليزية . وما لبث أن حضر العديد من معارفي في فترات سجنية سابقة . وعرض علي أن استلم ( الموجه العام للسجن ) فرفضت هذه التكليف من الأسرى ، مستفيدا من تجربتي السابقة في التجديد أيام سجن الجنيد ، وحالة الاختراق الممكنة من إدارة السجن لبعض الأسرى ، فقلت لهم إعفوني ، ولكنني سأكون في خدمة الجميع ، في المجالات الثقافية والتنظيمية ، ويشاورونني في كل صغيرة وكبيرة ، وأتولى مهمة الثقافة العامة للجميع ، دون استثناء ، حيث نظمت المحاضرات والنقاشات الثقافية والسياسية الشاملة والمتنوعة ، وكنت مترجما للأسرى في سجن النقب بالقسم الذي أنزلوني فيه مع ممثلي الصليب الأحمر الدولي ، ونظمت دورة باللغة الإنجليزية لقيادات الأسرى ومن رغب من شتى التيارات السياسية الفلسطينية ، مركزا على الحالة السياسية للأسرى وكيفية التعبير عن حالاتهم الاعتقالية ، فانتظم العديد من قيادات الأسرى من أصل 228 أسيرا من المعتقلين الإداريين في القسم المعني .
وكان من إقتراحاتي التي طبقها الأسرى الفلسطينيون في السجن في تلك الحقبة ولاحقا ، الدعوة لمقاطعة المحاكم العنصرية العسكرية الصهيونية بدعاوى الاستئناف على قرارات الاعتقال الإداري التي لا تسمن ولا تغني من الحق شيئا .
وفي 9 / 10 / 1988 ، إنتهت فترة اعتقالي الإداري ، وانتهى التعامل الصهيوني معي بالرقم الرياضي ، وليس بالاسم الصريح ، ونقلت مع بعض زملائي الأسرى لمنطقة قريبة من بلدة الظاهرية ، وهي البلدة الكريمة التي أحسنوا فيها استضافتنا ، ولكنني أبيت ورفضت النوم خارج منزلي ، فسافرنا بسيارة ركاب سباعية ، لنابلس ، مجتازين الحواجز العسكرية الصهيونية بين مدن الخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس للوصول إلى منزل الأسرة حيث وصلت بساعة متأخرة ، وسط ترقب الأهل ، الزوجة والأبناء والوالدين والإخوة والأخوات والأقارب والأنسباء والأصدقاء والجيران وغيرهم ممن كان في الاستقبال وانتظار خروجي من الحبس الإداري .

تجربتي الاعتقالية الخامسة – حوالي أربعة شهور
سجني الفارعة والنقب
24 / 4 – 10 / 8 / 1989


في شهر نيسان 1989 ، كنت قد بعت سيارتي المرسيدس السبعة ركاب ، ( وبعد اعتقالي أرجعها المشتري لمرض في قلبه ونفسه ) وأردت استبدالها بسيارة ، صغيرة أخرى ، وأردت شراء مركبة جديدة دلوني عليها بقرية عورتا جنوبي نابلس ، ذهبت لصاحب السيارة فلم أجده ولم أوفق في شراء تلك السيارة ، لحكمة ربانية ، وما أن خرجت مع شخص آخر وجلسنا في ظل شجرة لوز ، على مفترق طرق حوارة عورتا روجيب ، حتى قدمت سيارة جيب صهيونية لما يسمى بحرس الحدود ، وأوقفتنا الاثنين ، وبدأت بالتخابر مع آخرين ، يبدو أنهم كانوا يتحادثون لا سلكيا ، مع المخابرات الصهيونية ، فقالوا لهم أحضروه ، فأبلغني جنود حرس الحدود الدرزي بأنني مطلوب للأمن ( الإسرائيلي ) وخاطبوا بعضهم بعضا باللغة العبرية ، ( زي بنغو- أي هذا مطلوب ) فسألني جنود الجيب الصهيوني : لماذا أنت واقف هنا ؟؟ ولماذا قدمت لهذه المنطقة ؟ فقلت لهم جئت لشراء سيارة ، فلم يصدقوني ، فقد كان الوضع مكهربا بين حركة فتح ، والجبهة الشعبية في قرية عورتا والمنطقة ، وحللوا الوضع على أنني جئت للفصل بين المتقاتلين ، من الجانبين ، وهم كان من يؤجج الصراع بين التنظيمين الوطنيين ، وكان بجيبي ، مبلغا كبيرا من المال ، حوالي 2200 دينار أردني ، هو ثمن السيارة المبتغاة ، فخمنت أن هؤلاء الجنود سيسرقوني كما فعلوا في مرة سابقة ، وجاءت النجدة من والدتي ، حيث أخبر الشخص الذي كان معي والدي وأهلي ، فحضرت والدتي ، مع صديقي وزميلي بالجامعة من قرية بيتا ، هو بهجت الأقطش ( رحمه الله ) ، وأعطيتها المبلغ المالي وأنا في براكية الزينكو على مدخل الحكم العسكري الصهيوني ، ونجوت من السرقة الاحتلالية ، ولكنني من أنج من الاعتقال الإداري ، حيث جرى التحقيق الصهيوني معي ، أين كنت ؟ ولماذا ذهبت لعورتا ، وما هو هدف جلوسك في مفترق طرق المستوطنات اليهودية ، وابلغني ضابط المخابرات الصهيوني بأنني مطلوب لهم منذ فترة ويبحثون عني ؟؟! وجاءت هذه الطريقة من الاعتقال بالشارع الرئيسي ، نقلة نوعية جديدة في عملية اعتقالاتي المتعددة ، ثم جرى نقلي لسجن الفارعة ، ومكثت مدة ثلاثة أسابيع تقريبا ثم جرى تحولي للاعتقال الإداري ، ولم تحتسب لي فترة التحقيق والتدقيق في سجن الفارعة ، ونقلت لسجن أنصار 3 ، بالنقب للمرة الثانية خلال اقل من عام من الإفراج الصهيوني عني من الاعتقال الإداري البغيض فكانت هذه المرة هي ثالث مرة يتم فيها اعتقالي إداريا . وهذه المرة كانت من أصعب فترات الاعتقال رغم قصرها ، فكان جنود الاحتلال الصهيوني من حراس سجن أنصار 3 بالنقب من اليهود الروس المتطرفين ، وكانوا يلاحقوننا حتى داخل السجن وخيم المعتقل في الهواء الطلق ، ويحاولون ثنينا عن الصلاة الجماعية بإحدى الخيم . وفي ذات مرة ، تبدلت نوبة الحراس اليهود على القسم الذي كنت محتجزا فيه كمعتقل إداري ، فرفع أذان صلاة العصر ، وكنت أعد نفسي لصلاة العصر ، عبر التيمم لفقدان الماء للوضوء ، فوجدت حراس السجن وقد دخلوا لباحة السجن ، واعتقلوا كل من بالخيمة ( خيمة الصلاة الجماعية ) على الإبراش الخشبية ، فاقتادوهم لزنزانة كبيرة وكان عددهم 42 مصليا أسيرا ، وقد أضربنا وأرجعنا وجبة طعام العشاء للاحتجاج على هذا التصرف الاستفزازي اليهودي الجديد ، وبعد عدة ساعات أطلقوا سراحهم من زنزانة السجن وخرجوا مثقلين بالتعب ، جراء الحجز القسري بمساحة جغرافية قليلة لا تتناسب مع عددهم . وفي مرة أخرى ، استفزنا جنود الاحتلال الصهيوني واشتبكنا معهم في الحجارة وهم يطلقون الرصاص الحي فاستشهد إثنان منا ، أحدهم كان بقربي ، وكادت الرصاصة تقتلني شهيد، لكن مشيئة الله الشهيد عالم الغيب والشهادة شاءت أن تصيب زميلي بسام خضر من اليامون ، الذي إرتقي شهيدا مهللا بقوله ( لا إله إلا الله – محمد رسول الله ) .
لقد انتهت فترة اعتقالي الإداري ، وكان البعض يتوقع التجديد مرة أخرى لي ، ولكنني كنت حريصا في عدم الإنخراط التنظيمي داخل المعتقل ، كحذري الدائم ، فمكاني ليس في السجن ، وإنما يأتي السجن القسري لي بمثابة استراحة المحارب !؟ بعد نشاطي الكبير في الميدان الفلسطيني ، في الهواء الطلق ، رغم أنني أنشط كثيرا ولكن بلا وضع تنظيمي مركزي داخلي في معتقل الخيم الحقير في جنوب فلسطين المحتلة .
وبعد عودتي لبيتي ، في 10 آب 1989 ، استقبلتني أسرتي ، استقبالا حافلا ، وتداعى العشرات من أبناء القرية للتسلم علي والتهنئة بالإفراج والخروج من السجن العنصري اليهودي اللئيم كما هو حال كل مرة . وقد واجهت في هذه المرة ، أمرا عسيرا ، وهو عدم قبولي من أبنائي الصغار هلال وحازم ، فكانون ينتفون لحيتي السمراء الطويلة ، ويبتعدون عني ، خوفا ورهبا ، فقد نشأوا بعيدين عني رغم مخاطبتي بالرسائل لهم ولعائلتي الكريمة الصابرة المحتسبة لله تعالى . ولبثت فترة ليست بالقصيرة وهم يجافونني ، رغم الهدايا والألعاب والحسنات المتعددة التي أحضرتها لهم بصحبة والدتهم ، ولكن دون جدوى . إنها ضريبة السجن ، التي دفعتها كغيري من نزلاء السجون الصهيونية البغيضة رغم قصر الفترات الزمنية التي قضيتها في السجن ظلما وجورا وعدوانا . فنحن أهل فلسطين الأصليين والذين يحتجزوننا هم الطارئون والغرباء عن هذه الديار المقدسة . وصبر جميل والله المستعان . وقد استدعتني المخابرات الصهيونية في أوقات الانتفاضة الأولى المجيدة ، عدة مرات ، للتحقيق والتدقيق ، وأبلغتهم بأنهم يمكنهم اعتقالي في أي لحظة ولكن ذلك لا يفيدهم ، ففي كل مرة اعتقل بها أتعرف على سجناء سياسيين جدد ، وتمتد علاقاتي الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والصداقة العامة لمختلف المحافظات الفلسطينية ، ففي إحدى المرات ابلغني ضابط المخابرات الصهيوني أنه لم يعد يقتنع باعتقالي ، وهو بانتظار الدليل لإبعادي عند جماعتي وأصدقائي المفترضين الذين أبعدوا بلا وجه حق لخارج أرض فلسطين المباركة أو قتلي ليعلق أصدقائي صور الشهادة لي . ثم أنشأت السلطة الوطنية الفلسطينية ، في 1 تموز 1994 ، وتم إلغاء منع السفر على مئات آلاف الفلسطينيين وكنت ممن هو ممنوع من السفر وعائلتي وأسرتي ، ووالدي والدتي وزوجتي لمدة 14 عاما منذ عام 1980 – 1994 . وخرج ذات مرة أخي الكبير ، فما كان من ضباط المخابرات الصهيوني حتى طلب التحقيق معي ، عبر طلب رسمي تلقاه أخي من جسر اللنبي قرب أريحا ، وعندما قابلت ضابط المخابرات المختص بشؤون محافظة نابلس ، بناء على الاستدعاء الرسمي لي ولإخوتي ، مكثت معه ساعة في التحقيق متوعدا ومهددا كالعادة . وسألني إلى أين أرسلت أخاك ؟ علما بأن أخي فعليا كان سافر لزيارة حماته في الأردن .

أدعية الأسرى .. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ .. إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

ويا أيها الإخوة والأخوات الأسرى في جميع سجون الاحتلال الصهيوني .. لنردد فرادى وجماعات دعاء الأسير نبي الله يونس بن متى عليه السلام وهو في بطن الحوت ، في السجن الحيواني ، الأكبر خطرا وضررا من السجن العمراني الصهيوني اللئيم ، فستخرجون من ظلمات السجون البائسة إن شاء الله رب العالمين : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}( القرآن المجيد – الأنبياء ) .
وهذا الدعاء ليس لأننا ظالمين للغرباء الطارئين من يهود فلسطين المحتلة ، الذين شردونا واعتقلونا واحتلوا أراضينا واجتثوا أشجارنا وزرعنا وثمارنا ، ظلما وعدوانا ، وعاثوا في الأرض فاسدين ومفسدينا ، بل لظلمنا لأنفسنا وأهالينا ، بابتعادنا ولو لبرهة من الوقت عن الرسالة الإسلامية الناصحة الأمينة . وجاء في صحيح البخاري - (ج 14 / ص 165) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " .
وورد في سنن الترمذي - (ج 11 / ص 410) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ " .
وجاء في صحيح مسلم - (ج 4 / ص 475) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ فَقُلْتُ إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ فَقَالَ أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ " .

دعاء على الظالمين

على العموم ، لقد مكثت حوالي 18 شهرا في سجون الاحتلال الصهيوني ، متقاربة ومتباعدة طيلة عدة سنوات ، وأمضيت عدة أعياد إسلامية في السجن اللعين : عيد الفطر السعيد ، وعيد الأضحى المبارك ، بعيدا عن الوالدين والأهل والأحبة والأصدقاء ، ولا نملك إلا أن ندعو كما دعا نبي الله نوح على القوم الظالمين : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}( القرآن المجيد – نوح ) .

كلمة أخيرة

وختاما ، نرجو من الله العلي العظيم أن يفك اسر جميع أسرى فلسطين ، من الفلسطينيين والعرب والمسلمين ، في سجون الاحتلال الصهيوني والأمريكي والغربي ، بشتى فئاتهم وأصنافهم ، المحتجزين الموقوفين بانتظار المحاكمة الصورية الهزلية السفيهة ، والمحكومين والمعتقلين الإداريين ، وأن يرجعهم إلى أهلهم سالمين غانمين . والحق أحق أن يتبع ، وسيزهق الباطل ولو بعد حين . ولتتضافر جميع الجهود الفلسطينية والعربية والدولية والإنسانية ، لإطلاق سراح هؤلاء المنكوبين وإخلاء سبيلهم ، وأن نفك أسرهم ونكبتهم لينعموا بالعيش الرغيد والعمر المديد ، بالحرية والكرامة في ربوع الأرض المقدسة وأوطانهم ويقيموا وسط عائلاتهم وأهاليهم وأبناءهم وآبائهم وأمهاتهم .
وأدعو ربي بدعاء نبي الله يوسف بن يعقوب عليه السلام سابقي في الحبس ، بعدما خرج من سجن الفراعنة الظالمين ، فأقول : { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}( القرآن المجيد – يوسف ) .
وأدعو بدعاء نبي الله شعيب عليه السلام ، فأقول والله المستعان ، كما نطقت الآيات القرآنية الكريمة : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}( القرآن المجيد – هود ) .
والله ولي التوفيق . سلام قولا من رب رحيم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات: