الاثنين، 17 مارس 2008

وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ( 2 - 2 )

بسم الله الرحمن الرحيم

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ( 2 - 2 )

د. كمال علاونه
أستاذ العلوم السياسية – فلسطين

الحمد لله رب العالمين ، الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر فليس بعده شيء ، والظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد ،
أيها الأخوة والأخوات في الله ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
يقول الله العزيز الحكيم : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}( القرآن المجيد ، الجن ) .

بناء المساجد في الأرض

هناك حث وحض إسلامي كبير على التبرع لبناء المساجد وهي بيوت الله النورانية في الأرض التي تشع علما ونورا لهداية البشرية ونقلهم من المنكرات إلى معالم الأخلاق والحسنات لتكفير السيئات التي اقترفها الإنسان عن سبق الإصرار أو عن سوء نية أو بشكل عفوي . ويلجأ بعض الناس أو بعض ورثة الميت إلى بناء المساجد لتكون لهم ذكرى طيبة حسنة في الدنيا وصدقة جارية ينتفع بها الناس في الدنيا وينتفعون بها في الحياة الآخرة في رصيد حسناتهم . ولا ضير في ذلك ، والعبرة بخواتيم العمل وهي بناء مكان لعبادة الله في الأرض يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء ويكون مقرا روحيا لهم لأرواحهم وأجسادهم في الآن ذاته لتطييب النفس وتهذيبها وحثها على مكارم الأخلاق والرفق واللين والتشاور والترفع بها عن مساوئ الأخلاق . ففي بَاب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ يقول الله جل جلاله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ } ( القرآن المجيد ، التوبة ) .

وبالنسبة لثواب بناء المساجد الإسلامية في الأرض ، اهتم المسلمون بعملية بناء المساجد في مختلف أرجاء المعمورة ، فكانت منارات للإسلام والمسلمين ، وقد روعي في عملية التصميم والبناء الطراز الإسلامي الهلالي المميز . وعن ثواب بناء المساجد ، جاء بصحيح البخاري - (ج 2 / ص 239) سُمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ " . وفي رواية ثانية ، في صحيح مسلم - (ج 3 / ص 129) كان رَسُولَُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى ، يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ " . فبادر أخي المسلم للتبرع بما هو متاح لك لبناء بيت من بيوت الله العزيز الحكيم لتكون معلما من معالم النور الإسلامي الساطع للهداية والبشرى ولو بالقليل من المال والجهد أحدهما أو كليهما ، وكن كريما مقداما شجاعا في تعمير مساجد الله ولا تلقي بالا للكفار والمنافقين والمشركين والمغضوب عليهم ولا الضالين الذي يثبطون الهمم والعزائم ويحاولون صد الناس عن التبرع بالأموال للمساجد . فالمساجد تعود بالمنافع المعنوية والربانية على الخلائق في كل وقت وحين ، وتساهم في تلطيف الأجواء بين أبناء الأمة الإسلامية فيكونون متعاونين متكافلين ومتحابين في الله لأجل الله .
وفي حديث أشمل وأجمع حول ثواب المؤمن الصالح المتزايد بعد موته ولحدة بالقبر ، جاء في سنن ابن ماجه - (ج 1 / ص 281) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ : عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ ، فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ " .
وعن مكانة المساجد عند الله عز وجل ، جاء بصحيح مسلم - (ج 3 / ص 425) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا " .

وبشأن صلاة الرجال والنساء والأطفال في المساجد ، فقد نظم الإسلام العظيم هذه المسالة أيما تنظيم ، حسب الطريقة الإسلامية للعبادة والصلاة ، ففيها يصطف الرجال في الصفوف الأولى للصلاة ومن ثم الأطفال كحاجز بشري يحجز بينهم ، بين الرجال والنساء ، وذلك في أسلوب إسلامي مميز عبر العصور للفصل بين الذكور والإناث . فالمساجد هي مؤسسات أو بيوت لعبادة الخالق من كافة فئات الأمة الإسلامية ، وجاء الترتيب الصلواتي على هذا النحو في إطار أخلاقي يتيح المجال أمام الجميع للعبادة في أمن واستقرار نفسي وإيماني خالص ، دون الاحتكاك بين الذكور والإناث وهو نو ع من التسوية الإيمانية التي تراعي سبل الخشوع وحضور العقل والقلب في نفس المسلم المصلي سواء أكان ذكرا أو أنثى . وعن صلاة النساء في المساجد ، جاء بسنن أبي داود - (ج 2 / ص 177) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ " . وهو ترغيب وأمر وتفضيل في الآن ذاته . فالصلاة في البيوت خير للنساء ، ولا بأس عليهن إن صلين بالمساجد وهناك أجنحة خاصة جانبية للنساء لتعلم وتعليم القرآن المجيد في المساجد . وفي حديث نبوي آخر ، جاء بمسند أحمد - (ج 11 / ص 250) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ " .

عقوبة من يمنع ذكر الله في المساجد

أما بشأن عقوبة من يمنع ذكر الله في المساجد كما فعل المشركون وفعلت وتفعل سلطات الاحتلال الصهيوني بفلسطين المحلتة حيث تمنع ذكر الله في المساجد وقامت بهدم بعض المساجد في فلسطين في الأرض المقدسة المباركة وحولتها إلى أماكن للسياحة في السنوات الغابرة ، منذ نحو ستين عاما ، فهناك نحو 1200 مسجد في الجليل والمثلث والنقب والساحل الفلسطيني وهي المناطق المحتلة عام 1948 صهيونيا من فلسطين هدمت احتلاليا وأصبحت ملاه ليلية ومستودعات تجارية وبيوت زراعية بلاستيكية ومخامر ومزارع دواجن وأبقار وغيرها . ولا بد بهذه المناسبة من أن يقوم المسلمون بمنع هذه الإجراءات العقابية التعسفية التي تشكل تعديا سافرا على حرية العبادة في البلاد ضد العباد من أهل فلسطين الأصليين .
وبالنسبة للعقاب الرباني لمانعي العبادة في المساجد الإسلامية ، فقد توعد الله عز وجل الظالمين الذين سعوا أو يسعون في خراب المساجد بأشد العقاب والخزي في الدنيا والآخرة ، يقول الله عز وجل في سورة البقرة : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}( القرآن المجيد ، البقرة ) ، والمساجد لله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير . قال عز من قائل : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} ، ( القرآن المجيد ، الجن ) .



آداب الجلوس في المساجد

يسن إسلاميا عند جلوس المسلمين في المساجد وانتظار الصلاة المفروضة أو التطوعية أو الصلاة على الجنائز ، من الموتى والشهداء ، أن يقوموا بذكر الله من التسبيح ( سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده ) والتهليل ( لا إله إلا الله ) والتحميد ( الحمد لله ) والتكبير والتمجيد لله سبحانه وتعالى ( الله أكبر ) ، والحوقلة ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) . جاء بسنن أبي داود - (ج 2 / ص 170) قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ " . وفي حديث آخر ، أورده مسند أحمد - (ج 23 / ص 3) أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َقَالَ : " إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَا يُشَبِّكَنَّ ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ " .
وهناك منهيات إسلامية حذر الإسلام من فعلها في المساجد ، جمعها ووعاها حديث جامع شامل ، من جوامع الكلم ، إذ أوردت سنن ابن ماجه - (ج 2 / ص 457) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ : لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا ، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ ، وَلَا يُنْشَرُ فِيهِ نَبْلٌ ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا " . وهي كلمات جامعة مانعة تدل وترشد المصلين المسلمين إلى إتباعها لتحاشي نشوب الخلافات في بيوت الله العزيز الحكيم ليكون الاحترام والوئام في المساجد لا الخصام والانقسام بين أبناء خير أمة أخرجت للناس .
وعلى صعيد آخر ، طلب الرسول الكريم من المصلين عدم الخروج من المسجد بعد دخول وقت أذان أي صلاة من الصلوات المفروضة الخمس لحين أداء الصلاة المفروضة ووصف من يخرج بعد الأذان وكان جالسا في المسجد بالنفاق نعوذ بالله من النفاق والمنافقين . جاء بسنن ابن ماجه - (ج 2 / ص 437) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ " .

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلي الثوم والبصل والكراث من إتيان المساجد ، جاء بصحيح البخاري - (ج 3 / ص 362) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا ، أَوْ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا ، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ " . وفي حادثة أخرى ، َأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، كَانَ مَعَهُ ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا . قَالَ : كُلْ ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي " . وجاء في صحيح مسلم - (ج 3 / ص 190) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ " . وفي حديث متمم آخر بصيغة أخرى ، ورد بسنن أبي داود - (ج 10 / ص 300) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَقَالَ : " مَنْ أَكَلَهُمَا فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا " ، وَقَالَ : " إِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ آكِلِيهِمَا فَأَمِيتُوهُمَا طَبْخًا " . وأكدت ذلك ، سنن ابن ماجه - (ج 3 / ص 294) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَطِيبًا أَوْ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أُرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الثُّومُ وَهَذَا الْبَصَلُ . وَلَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرَّجُلَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْهُ فَيُؤْخَذُ بِيَدِهِ حَتَّى يُخْرَجَ إِلَى الْبَقِيعِ فَمَنْ كَانَ آكِلَهَا لَا بُدَّ فَلْيُمِتْهَا طَبْخًا " .
والمقصود هنا أكل هذه الأطعمة نيئة لأنه يصدر عن فم آكلها رائحة غير طيبة ، والمسجد مكان لتجمع المسلمين بصورة جماعية واكل هذه الأطعمة يؤذي المصلين أو الجالسين بجانب آكلها .
وفي المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 34) كان النَّبِيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " ابْنُوا الْمَسَاجِدَ وَأَخْرِجُوا الْقُمَامَةَ مِنْهَا ، فَمَنْ بنى لِلَّهِ مَسْجِدًا بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ " ، قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُبْنَى فِي الطَّرِيقِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، وَإِخْرَاجُ الْقُمَامَةِ مِنْهَا مُهُورُ حُورِ الْعِينِ ". والقمامة الكناسة .
من جهة أخرى ، حث الإسلام على بناء المساجد الصغيرة في الدور لعبادة الله تعالى ، جاء بسنن أبي داود - (ج 2 / ص 41) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ " . وقيل بشأن بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ يَعْنِي الْقَبَائِلَ .
من جهة ثانية ، دعا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن تجنب المساجد الصبيان والمعتوهين وعمليات التجارة والخصومات ونشدان الضالة والمفقودات الماية والعينية ، أورد ذلك سنن ابن ماجه - (ج 2 / ص 459) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ ، صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ ، وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ " . والمطاهر تعنى أماكن الوضوء وقضاء الحاجة ، وجمروها : بخروها .
وفي صحيح مسلم - (ج 3 / ص 195) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ ، فَلْيَقُلْ : لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا " . وفي سنن الترمذي - (ج 5 / ص 151) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ . وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً ، فَقُولُوا : لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ " . وفي صحيح مسلم أيضا - (ج 3 / ص 197) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى ، قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ " . ويقصد بذلك أن المساجد بنيت لعبادة الله العزيز الحكيم وحده وكما هو معلوم فان الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس لعبادته .

ِقبلة المسلمين الأولى والثانية
المسجد الأقصى والمسجد الحرام

جاء بصحيح البخاري - (ج 4 / ص 376) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى " .
وإذا كان لجميع المساجد الإسلامية في الأرض حرمة مميزة خاصة ، فهناك مساجد ثلاثة في بقع مباركة تشد الرحال الإسلامية إليها والسفر إليها من كل فج عميق بقصد التبرك فيها والتقرب لله جل شأنه ، وهي المساجد الآتية :
أولا : المسجد الحرام في مكة المكرمة .
ثانيا : المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة .
ثالثا : المسجد الأقصى ببيت المقدس .

على أي حال ، لقد ترسخت وتعمقت جذور وأصول العلاقة الدينية بين الإسلام والمسلمين عامة وبيت المقدس ومكة المكرمة والديار الحجازية خاصة نواة الإسلام الأولى بعد حادثة الإسراء والمعراج الجليلة التي أسري فيها برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، على البراق ، ومن المسجد الأقصى المبارك إلى السماوات العلى . على العموم ، بعد بعث الرسول محمد ( ص) برسالة الإسلام الخالدة المجددة والناسخة للرسالات السماوية السابقة جعل المسلمون قبلتهم بيت المقدس حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين ستة عشر وسبعة عشر شهرا باتجاه قبلة بيت المقدس ( المسجد الأقصى المبارك ) قبل أن يتوجهوا إلى الكعبة المشرفة في المسجد الحرام ويولوا وجوههم شطره بمكة المكرمة كما أمرهم الخالق جل وعلا .
يقول الله الحي القيوم : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} ( القرآن المجيد ، البقرة ) . وقال الله تبارك وتعالى في آيات أخرى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}( القرآن المجيد ، البقرة ) .
وحسبما ورد بصحيح البخاري - (ج 11 / ص 237) عنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى . قُلْتُ : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ . ثُمَّ قَالَ : حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ ، وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ " .
وهذا تأكيد نبوي على أن المسجد الحرام أقدس بقاع الأرض قاطبة لدى المسلمين وهو مسجد الحج والعمرة ، كان أول بناء لعبادة الله تعالى فيه في الأرض ثم تبعه المسجد الأقصى المبارك ليأتي في المرتبة الثانية من ناحية تاريخية وبينهما أربعون سنة ، بينما الذي بنى المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ، فكان هذا المسجد النبوي الشريف نواة جامعة إسلامية عريقة يشهد لها التاريخ القديم والحديث والمعاصر ، جامعة سياسية وحربية ودينية واقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية جرى فيه الإعداد الكبير للفتح الإسلامي المظفر المبين داخل الجزيرة العربية وخارجها لاحقا .
وأكد الإسلام على تلازم المسجدين الحرام والأقصى ، قال الله تبارك وتعالى في مطلع سورة الإسراء :{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }( القرآن المجيد ، الإسراء ، 1 ) . فكانت عملية الإسراء والمعراج قبل هجرة المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعام واحد أي في عام ( 621 م ) إلى المدينة المنورة ، كانت المعجزة الإلهية للرسول الكريم الخالدة عبر الزمان والمكان والى الأبد ، الإسراء جاء من المسجد الحرام بمكة المكرمة على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس حيث صلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأم بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ومن ثم المعراج مع الوحي جبريل عليه السلام إلى السماوات العلى وهي ما عرفت بذكرى الإسراء والمعراج التي فرض الله عز وجل فيها الصلوات الخمس على الأمة الإسلامية . بعد هذه الحادثة أطلق على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ( إمام الأنبياء ) فهو النبي الوحيد الذي صلي بالمساجد الثلاثة بها كاملة . وقد أكد الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى على قدسية ثلاثة مساجد في أرض الله الواسعة ، فقال : في الحديث النبوي الشريف فيما رواه الإمام البخاري : " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى " ( صحيح البخاري ، ج 4 ، 376 ) . وعن مكانة المسجد الأقصى المبارك وفضله على المساجد الإسلامية ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " ( سنن أبي داود ، ج 5 ، 61 ) . وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ " ( سنن ابن ماجه ، ج 4 ، ص 333 ) . كما وصف الرسول الكريم المقيمين في بيت المقدس بالمرابطين الذين سيبقون على الحق ظاهرين بصورة ظاهرة وجلية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ ، إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ ، وَهُمْ كَذَلِكَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَأَيْنَ هُمْ ؟ قَالَ : بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ " ( مسند أحمد ، ج 45 ، ص 281 ) .

صلاتي .. والمثلث المسجدي الإسلامي

يجب على المسلم أن يجتهد ويصلي بأي مسجد قريب عليه ، في قريته ومدينته ، وفي حل وترحاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فالصلاة المكتوبة في المساجد أعظم أجرا من الصلاة في البيوت وأماكن العمل ، وإذا لم يكن من الأمر بد فالصلاة الجماعية في العمل والبيت أفضل من الصلاة في المنزل وحيدا . فالصلاة الجماعية أفضل وأعظم أجرا وأكثر قربا من الله ثم من الناس ، ومشاركة وجدانية ونفسية للجميع في مكان واحد في أوقات محددة .
على أي حال ، لي تجربة بسيطة خاصة فريدة من نوعها في الصلاة في المساجد الإسلامية الثلاثة ، بيوت الله النورانية المشعة بإشعاع حضاري شامل وجامع في كافة أرجاء المعمورة . فالمسجد الأقصى المبارك كنت أرتاده مع والدي دائما ، عندما كنت طفلا صغيرا ، كلما سنحت الفرصة لنا ذلك ، خاصة وأن أحد عماتي كانت تزوجت في قرية صور باهر إحدى قرى القدس الشريف ، فكلما زارها والدي كان يصطحبني دائما ، وكنت أسر وأفرح في هذه الرحلة الإيمانية البعيدة جغرافيا والمتعبة جسدا والعميقة روحيا . أما في هذا الأوان ، بحكم عملي كأستاذ جامعي في طولكرم غرب نابلس على بعد 35 كم ، فإنني لا أتمكن من زيارة المسجد الأقصى المبارك بانتظام كما كان الحال سابقا ، فأزوره الآن بشكل قليل كلما سنحت لي الفرصة ذلك ، كوني من نابلس التي تبعد نحو 80 كم شمالا عن المسجد الأقصى المبارك ، خاصة وأنه محاصر من قوات الاحتلال الصهيوني ويمنع الفلسطينيين من خارج المدينة المقدسة من دخولها إلا بشق الأنفس ، وبأعمار تزيد عن سن الخمسين سنة ، وأنا لم ابلغ هذا السن حتى الآن ، بالمرور عبر الحواجز الصهيونية المنتشرة كقطاع الطرق على مداخل مدينة القدس الشريف . وصلاة الجمعة كنت أسعى كثيرا لتأديتها في الصفوف الأولى في المسجد الأقصى المبارك ، وأحيانا كنت أصلي صلاة الفجر بقريتي عزموط على بعد 5 كم من نابلس ، وأجهز نفسي وأسوقها شطر المسجد الأقصى المبارك على بعد 80 كم وعندما أصل للمسجد المبارك أتصل بأهلي وابلغهم أنني في القدس بالبقعة المباركة عند الصخرة المشرفة بفناء المسجد الأقصى المبارك . فكانوا أحيانا لا يصدقون ، ويقولون لي أنت تمزح متى وصلت ؟ ونحن ما زلنا في البيت ولما يطلع الفجر بعد ؟ ولماذا تركتنا ولم تأخذنا معك ؟ فأقول لهم : إن اللف والدوران خلف الحواجز اليهودية صعب جدا ، وأنتم لا تقدرون على هذه المسألة ! ولا تعرفون سلك الطريق الجبلية والحواجز الصهيونية المجرمة كقطاع الطرق الصهيونية الظاهرين بحماية غربية غريبة وسكوت عرب مهين . أما أنا فقد كنت أحيانا أدور في حلقة مفرغة ، حول حواجز الاحتلال وأتسلق الجبال والهضاب في سبيل الوصول لمهجة قلبي الأقصى المبارك ، وأحيانا كنا مع بعض المواطنين ندور ونجتاز 10 كم ما بين السير بالمركبات الجبلية والسير على الأقدام لنلتف على الحاجز الصهيوني الذي لا يبعد عن نقطة قريبة لا تتجاوز نصف كيلو متر . لا أقول هذا للدعاية السياسية أو الدينية وإنما حقيقة أنا أعبر ما يجول في خاطري أثناء تحدي حواجز قطاع الطرق الصهاينة الغرباء على أرض وطني ، القاهرين لشعبي ، ومشجعا لبني وطني لاختراق حواجز الاحتلال اليهودي مهما كلف الأمر من جهد ومشقة وتعب ومال ليس بالقليل فكله في سبيل الله العزيز الحكيم وحماية المسجد الأقصى المبارك وتأدية الواجب الإسلامي العظيم في شد الرحال لهذا الموقع الإسلامي العظيم . فليس كثيرا أن نجتاز الصعاب والمشاق لكي نؤدي الصلاة في مسجد أولى القبليتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى ومعراج النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه ، زادها الله جميعها تعظيما وتبجيلا ، راجيا من الله العلي القدير أن يفك أسرنا في فلسطين ، ويفك أسر المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة ، وأن يحرر البلاد والعباد من رجس الصهاينة الأنذال الأوغاد .
وكنت عندما عملت في القدس أو رام الله بوسط فلسطين بين الأعوام 1994 1998 أزور المسجد الأقصى بانتظام ، كل يومين أو ثلاثة مرة واحدة ، وعلى الأقل مرة واحدة أسبوعيا وأقضى فيه وأسرتي ساعات طويلة تمتد من ساعات الصباح وحتى ساعات متأخرة من المساء ، فرحلتنا الأسرية الأسبوعية كانت شطر المسجد الأقصى المبارك ، ليبارك الله أسرتي وعائلتي ونكون ممن يشد الرحال للمسجد الأقصى المبارك ويلبي نداء الإسلام العظيم .
ولي قصص وروايات كثيرة في مخيلتي عن هذه البقعة المقدسة في الإسلام التي تئن تحت وطأة الاحتلال الصهيوني الغاصب . سأدونها لاحقا لتكون نبراسا للسالكين والعارفين والأقارب والأباعد عن المسجد الأقصى المبارك وارسم لهم صورة حقيقية تعتمر في قلب كل مؤمن بالله العزيز الحميد .
وعلى الجانب الآخر ، لضم مضلع ثان آخر من أضلاع المساجد الثلاثة ، وبفضل الله ومنه تمكنت من أداء مناسك العمرة لأول مرة في مكة المكرمة وصليت بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف مدة أسبوعين بدءا من العشر الأواخر من شهر الصيام رمضان المبارك عام 1996 ، حيث ذهبت من عمان العاصمة الأردنية بصحبة والدتي الكريمة رحمها الله وجعل مثواها الفردوس الأعلى إن شاء الله تعالى وأخي الكبير وخالي وزوجته . وكانت رحلة إسلامية ممتعة لي رغم مشاق السفر ، فالسفر قطعة من العذاب كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والرحلة البرية تستغرق نحو 40 ساعة متواصلة ذهابا ومثلها إيابا .
والمرة الثانية ، كانت رحلة دينية شاملة رحلة الحج والعمرة معا مع والدي لمدة شهر كامل تقريبا ، زرنا خلالها المسجدين الكبيرين : المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف . وكنت أفرزت من قبل هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية الحكومية في آذار 1999 ، كوني كنت معدا ومقدما لبرامج إسلامية عبر أثير صوت فلسطين في أرض الوطن وسافرت مع طاقم من الإذاعة والتلفزيون لتغطية مناسك الحج ومرافقة الحجاج الفلسطينيين وتشرفت بأن كنت أميرا لطاقم الإذاعة الفلسطينية في الرحلة ، حيث ذهبنا جوا عبر الطائرة ، وأحرمت من مطار عمان الدولي وأديت العمرة أولا قبل توجهي للمدينة المنورة الكريمة ، بينما ذهب زملائي وسبقوني للمدينة المنورة ، ثم عدنا معا برفقة قافلة حجاج فلسطين وأديت العمرة مرة ثانية في نفس الرحلة ، ومرة ثالثة مقرنا مع الحج ، كما وأديت العمرة مندوبا عن والدتي رحمها الله هدية روحانية إيمانية لها وكانت ما زالت حية ترزق إلا أنا كانت مريضة ولم تتمكن من الذهاب للحج معي ومع والدي الكريم .
وقلبي يهفو دائما لزيارة المساجد الإسلامية الثلاثة ، واستعيض أحيانا عن عدم تمكني من الصلاة بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف بالديار الحجازية الشريفة بمتابعة أصوات وصلوات اليوم عبر القنوات الفضائية فتجدني أقف مشدودا مسمرا أنظر واستمع بخشوع وانتباه شديدين لما يجول ويقرأ من تلاوة للآيات في رحاب المسجد الحرام ، أقدس بلاد الله في أرض الله الواسعة ، أو من رحاب المسجد النبوي الشريف ولولا المشاغل الدنيوية والأسرية لذهبت كثيرا للمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف . وأتمنى أن أزورها مرة واحدة سنويا على الأقل لما لهما من محبة وحب إيماني دافق متدفق في قلبي . ولا استطيع أن اصف لنفسي ولكم من مشاعر جياشة عندما أشاهد الكعبة المشرفة فتبقى دائما محفورة ومرسومة في مخيلتي في قلبي وعقلي وجسدي ، وكأنها قطعة مني أو أنا قطعة منها . نترككم في أمان الله ورعايته ، طبتم وطابت أوقاتكم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات: