السبت، 14 نوفمبر 2009

الكيل بمكيالين .. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ

الكيل بمكيالين .. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ

الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ .. زِنْ وَأَرْجِحْ


د. كمال إبراهيم علاونه
أستاذ العلوم السياسية
الرئيس التنفيذي لشبكة الإسراء والمعراج ( إسراج )
فلسطين العربية المسلمة

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله العزيز الحكيم جل جلاله : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)}( القرآن المجيد ، المطففين ) .

ويقول الله ذو الجلال والإكرام جل وعلا : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) }( القرآن الكريم ، يوسف ) . ويقول الله الواسع الحكيم : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}( القرآن الكريم ، يوسف ) .

ويقول الله العلي العظيم تبارك وتعالى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) }( القرآن المجيد ، الإسراء ) .

ويقول الله العظيم الحليم : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}( القرآن المجيد ، هود ) .

بادئ ذي بدء ، يقصد بالتطفيف البَخْس في المكيال والميزان المادي والمعنوي ، بزيادة الأمر عندما يكون له ، وتقليله وتبخيسه إذا لكان للآخرين ، وقد توعد الله العدل عز وجل المطففين بالاتجاهين الايجابي والسلبي ، الزيادة والنقصان ، بالهلاك والبوار في الدنيا والآخرة ، ويتمثل العقاب بالدنيا الخسران المبين في التجارة ، وفقد ثقة الناس بالمطفف ، وعقاب الآخرة أشد وطأة من عذاب الدنيا ، فيوم الحساب العظيم يحاسب فيه الإنسان على مثاقيل الذر ، وكفى الله حاسبا وعادلا .
على أي حال ، قال بعض المفسرين إن ويل هو وادي عميق يسيل من صديد أهل جهنم في أسفلها للذين يُطَففون ، أي الذين ينقصون الناس ، ويبخسون حقوق الناس في المكاييل إذا كالوهم ، أو وزنوهم ، وكلمة ويل هي زجر وتهديد إلهي للذين يتلاعبون بالأوزان والمعاملات ، فالأصل هو أن يرضى الإنسان لغيره كما يرضى لنفسه ، حتى يكون عادلا ولا يبخس الناس أشياءهم . ومن حكمة الله العدل العادلة بين جميع خلقه هو الميزان الحق ، لا زيادة ولا نقصان ، ولو كان نزرا يسيرا ، فاحرصوا عندما تشترون وتتولون عملية التوزين أن لا يزيد ولا ينقص الميزان قدر الإمكان . والموازين المعمول بها الآن ، حيث وحدات الكيلو غرام الفرنسي الاختراع أو الرطل الإنجليزي للوزن ، أو الأمتار والكيلومترات أو الأميال للمسافات ، أو العدالة الاجتماعية للحكم بين الناس إذا طلب من شخص أن يحكم بين متخاصمين أو متشاجرين فرادى وجماعات وشعوب وأمم .
ولا بد من القول ، إن كل إنسان هو حاكم نفسه ، وقاضي نفسه والآخرين ، ومحاسب نفسه وبنفسه لنفسه ولغيره من الناس الآخرين ، إن كان من أهل الصلاح والإصلاح ، وهو يعلم علم اليقين الحق من الباطل ، والغث من السمين . وما نراه من صراع بين الناس على أمور تافهة ، لا تنم إلا عن جهل مطبق . والأصل الصحيح أن يكون الوزن القسط العدل بأدق الموازين الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ليعيش المجتمع المسلم على أكمل وجه ، بعيدا عن المغالاة ، وبعيدا عن الشح والبخل والتقتير ، وبعيدا عن الإسراف والتبذير والإمتلاء الفاسد غير المبرر .


نماذج معاصرة على التطفيف

أولا : في البيع والشراء والتجارة

يقول الله الحي القيوم سبحانه وتعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}( القرآن المجيد ، الأعراف ) .

هناك بعض النفوس المريضة التي تلجأ لسياسة التطفيف ، زيادة أو نقصانا ، في عمليات البيع والشراء في سوق الخضار المركزي والبقالات والسوبر ماركات ، والمحلات التجارية والشركات الخدمية والمؤسسات العامة والخاصة ، عبر عدة أساليب ، أهمها : التلاعب بعيارات الموازين ، فيضعون عيارات للكيلو غرام بأقل من ألف غرام ، أو وضع مغناطيس أسفل بيضة القبان الكبير ليكون عند الوزن توزينا أقل بأسعار مماثلة لسعر السوق ، وكذلك عدم تساوى كفتي الميزان التقليدي ، أو التلاعب بالأوزان الإلكترونية بالعبوات الفارغة والممتلئة . وكل هذه المسائل تطفيف يحرمه الإسلام العظيم . جاء في سنن الترمذي - (ج 5 / ص 125) عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَفَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ فَجَاءَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاوَمَنَا بِسَرَاوِيلَ وَعِنْدِي وَزَّانٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَزَّانِ : " زِنْ وَأَرْجِحْ " .

ثانيا : التطفيف في التصنيع

يقول الله ذو الفضل العظيم : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}( القرآن العظيم ، الحديد ) .

تقوم مصانع التعليب ، أو الشركات الخدمية ، لجميع المواد الغذائية والاستهلاكية ، الضرورية للحياة البشرية ، كالمعلبات الغذائية وأكياس الطحين والقمح والعدس والفول والحمص والذرة ، والمشروبات الخفيفة ، ومعلبات الشاي والقهوة والبزورات ، والمخلالات ، والعصائر ، والبسكويت ، والحلويات ، ومنتجات الألبان ، واللحوم ، والخضروات والفواكه ، وزيوت ووقود السيارات وسواها ، بأوزان معينة ، بقبان حديدي أو ميزان حديد إلكتروني ، أو ميزان متنقل . فعتبأ العبوات الحديدية أو البلاستيكية أو الكرتونية ، أو الورقية ، الجاهزة ، وإيهام الناس أن عبوة كذا ، كالزيت مثلا ، هي عبارة عن 5 لتر أو 3 لتر أو 2 لتر أو 1 لتر ، وهي في حقيقة الأمر تنقص عن ذلك ، فبدلا من كونها الأصلي 5 لتر يفاجأ المشترى بأنها 4.5 لتر ، وهو تطفيف بإنقاص الوزن بنصف لتر أو أقل في كل عبوة ، وهذا حرام إسلاميا . ومثال آخر ، يقوم المستهلك بشراء علبة بندورة معلبة عيار مركز 28 – 30 غم ، فيفاجأ بعد ذلك بأنها من عيار 20 – 22 غم ، وهو تزييف وتطفيف يحاسب عليه الإنسان أو تغيير مدة صلاحية العبوة ، للتمويه والاستخفاف . جاء في صحيح البخاري - (ج 7 / ص 326) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ " . وجاء في سنن أبي داود - (ج 9 / ص 170) عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ : جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَفَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فَسَاوَمَنَا بِسَرَاوِيلَ فَبِعْنَاهُ وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " زِنْ وَأَرْجِحْ " .

ثالثا : التطفيف الدولي

يقول الله الواحد القهار : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) }( القرآن المجيد ، المائدة ) .
ويظهر هذا الأمر عبر التطفيف ، وأساليب الحرمان والقمع الدولية لشعوب وأمم العالم في تقرير مصيرها ، وإنشاء البنى التحتية والفوقية في جميع الاتجاهات ، وتفضيل الكيانات الطائفية المستعمرة على السكان الأصليين ، كما هو الحال في فلسطين حيث تمارس الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية سياسة التطفيف ضد المواطنين الفلسطينيين أهل البلاد الأصليين . وتعاملهم بلا إنسانية وتشن عليهم جرائم الحرب تلو جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وتأتي الدول المطففة في ما يسمى بمجلس الأمن الدولي ، وتكيل بمكيالين ، مكيال التفضيل للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة ، ومكيال التبخيس للشعب الفلسطيني حيث يحرم شعب فلسطين من أبسط حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية العامة في أرض الآباء والأجداد .
وهناك مكيال التمييز العرقي العنصري للتعامل العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي من الدول الاستعمارية للشعوب الصغيرة المغلوبة على أمرها ، فتقوم الثورات والانتفاضات وتنظم المسيرات والمظاهرات لتصحيح وإصلاح الموازين الاجتماعية والسياسية ، للاحتجاج على التمييز والظلم والطغيان تجاهها والتعبير عن عدم رضاها عن الواقع المرير الذي يصنعه الجلادون ضدها . والأمثلة كثيرة في هذا المضمار تجاه الأمتين العربية والإسلامية والشعوب الإفريقية وشعوب أمريكا اللاتينية من مجلس الأمن الدولي الذي يمارس سياسة الكيل بمكيالين ، مكيال تفضيلي ترجيحي ، ومكيال تفريطي تبخيسي وتنقيصي لحقوق الآخرين . ويعود ذلك تبعا لتوافق الأهواء والمنافع والمصالح الاقتصادية والتجاذبات السياسية والتكتلات العسكرية والتلاقيات الثقافية وغيرها .

رابعا : التطفيف الجامعي

يقول الله الحميد المجيد عز وجل : { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)}( القرآن الحكيم ، الشعراء ) .
وجاء في صحيح مسلم - (ج 1 / ص 4) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ مَعَ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } " .
وهذا النوع من أحدث أنواع التطفيف والتبخيس ، وأشد وطأة على المجتمع الإسلامي ، وأكثر تدميرا ، وهو موجود بكثرة في فلسطين والوطن العربي وبعض البلدان الإسلامية والعالمية الفقيرة المال والقلب والعقل معا ، بسبب غياب الرقابة الفعلية وفقدان الضمائر الحية ، وانتشار المحسوبيات والعشائرية والحزبية والقبلية السياسية والاجتماعية والاقتصادية على مؤسسات التعليم العالي ومشاركة الوزارة في ظلم الناس .
ويتمثل هذا التطفيف بعدة صور لعل من أبرزها :
1. عدم احتساب الشهادة الحقيقية للشخص : فمثلا المتخرجين من الجامعات الهندية والروسية ودول الكتلة الشرقية سابقا ، وبعض الجامعات الآسيوية بدرجة البكالوريوس يحتسب لهم شهادة دبلوم متوسط ، والمتخرجين بدرجة الماجستير ( الشهادة الجامعية الثانية ) تحتسب لهم درجة البكالوريوس ( الدرجة الجامعية الأولى ) ، والمتخرجين من درجة الدكتوراه ( الدرجة الجامعية الثالثة ) يحتسب لهم زورا وبهتانا وتطفيفا وكأنهم حاملين لشهادات الماجستير ، فتبا لهكذا أمر ، وهذا تطفيف واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . وهذا تقليل من شأن الناس المتخرجين ، وظلم كبير يقع عليهم ، ويؤدي إلى صدامات خفية وعلنية أحيانا تطفو على السطح .
2. الاحتساب المالي : بعد التطفيف بالاحتساب العام للشهادة بالتبخيس والتنقيص من حقوق الناس ، يتبعه تطفيف مالي ، فيحاسب حامل الدكتوراه على كادر شهادة الماجستير ، وحامل الماجستير على كادر شهادة البكالوريوس ، فأي ظلم هذا وأي استهتار ، بحق هؤلاء الأشخاص ، ذكورا أو إناثا ، وكل ذلك بهدف توفير إدارات الجامعة لدراهم بخسة ومعدودة ، وحرمان عائلات هؤلاء الناس من حقوقهم المالية .
3. الإمتلاء للبعض والتنقيص للبعض الآخر : فتلجأ بعض إدارات الجامعات الفلسطينية ، والعربية أحيانا ، إلى منح خريجين من روسيا أو دول الكتلة الشرقية سابقا ، من حملة الدكتوراه رواتب معادلة لزملائهم من خريجي الجامعات الغربية كالأمريكية والأوروبية ، وحرمان الآخرين من هذا الحق ، فيمكن أن يكون خريجين اثنين من جامعة واحدة ، هذا يأخذ راتب الكادر الوظيفي للدكتوراه وذالك يأخذ راتب الكادر الوظيفي للماجستير ، والأمر واضح للعيان ولا يمكن تفسيره إلا بكلام الله عز وجل المتمثل بالتطفيف المحرم إسلاميا بصورة قطعية .
4. والتطفيف واضح في عديد الجامعات الفلسطينية من جهة اعتماد الشهادات العلمية ، رغم أن فلسطين لم تفتتح برامج دكتوراه إلا برنامجا يتيما لا أب له ولا أم ، في الكيمياء في جامعة واحدة ويقبل خمسة طلاب كل سنتين . فإدارات بعض الجامعات المطففة تلجأ لاحتساب شهادات الدكتوراه الصادرة عن بعض الدول العربية كالعراق ومصر والسودان وروسيا وغيرها بشهادات ماجستير رغم أن وزارة التعليم العالي بفلسطين عادلت شهاداتهم كما هي الدكتوراه كدكتوراه ، والماجستير كماجستير ، ولكن ضعف طاقم الوزارة أو لا مبالاته وعدم رغبته وقلة سطوة الوزارة تجعل من بعض الجامعات الفلسطينية لا تلقي بالا لهذا الأمر ، علما بأن لديها سلطة كبيرة على الجامعات تتمثل في إصدار التراخيص الجامعية للكليات والبرامج والأقسام الأكاديمية والتقنية ، وكذلك تخصيص ميزانيات سنوية وبعثات أكاديمية ودورات تدريبية لهذه الجامعات .
وبهذا يمكن أن يحتمل الأمر احتمالين : الأول مشاركة وزارة التعليم العالي مع إدارات تلك الجامعات في التطفيف الأكاديمي والإداري والمالي .
والثاني : إهتزاز هيبة طاقم الوزارة أمام إدارات هذه الجامعات .
وكليهما أمر أسوأ من الآخر ، ولا يبشر بوضع سوي يسير على الصراط المستقيم بل يسير على صراط الجحيم والعياذ بالله . فليتذكر هؤلاء الموت والنزول للقبر ، والحساب يوم البعث العظيم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
5. التطفيف بين الجامعات الغربية والعربية : هناك نوع آخر من التطفيف ، يتمثل في التفريق بين خريجي الجامعات العربية والغربية كالأمريكية والأوروبية ، وهو تطفيف ماحق ، وزاهق زهوق الباطل ، يسبب التناحر والتقليل من قيمة مؤسسات التعليم العالي العربية بجميع الميادين ، ويؤدي إلى عدم ثقة المواطن العربي والمسلم بالجامعات العربية وخذلان لهؤلاء الناس ، وتهميش للتعليم العالي العربي والإسلامي .
وكلمة لا بد منها ، إنه من الناحية الإسلامية ، وإن فرض التطفيف على الإنسان ، في لحظة الحاجة المادية لإعالة الأسرة وعدم توفر فرص العمل المؤاتية ، وقبل به فإنه لا يسقط حق التطفيف عن أهل التطفيف ، لأن هؤلاء لا يحكمون بالسوية . والإنسان يحكم عليه من شهاداته وخبرته وإنتاجه ، وعدم التسرع والحكم على جميع خريجي هذه الجامعات ، سواء أكانت أمريكية أو غربية أو عربية بمستوى واحد ، فإن كان شخص ما غير مؤهل علميا لسبب أو لآخر ، فليعلم الجميع أن هناك جامعات بريطانية وأمريكية تمنح شهادات مزيفة بقيمة ما بين 8 – 10 آلاف دولار . فما لكم كيف تحكمون ؟؟ .

وللقضاء على التطفيف المذكور لا بد من إتباع الخطوات الآتية على سبيل المثال لا الحصر :
أولا : تنحية إدارات الجامعات العربية والفلسطينية التي تتبع هذا النمط من التطفيف . ومجالس الأمناء في هذه الجامعات يجب أن يكون لهم رأي رادع في هذا المجال .
ثانيا : عدم إعتراف إتحاد الجامعات العربية بتواقيع إدارات هذه الجامعات حتى تعود عن غيها وسلاطتها وعنجهيتها السادرة فيها ، وإنصاف المظلومين . وعدم استقبال إدارات هذه الجامعات في اجتماعاتها .
ثالثا : المعاملة بالمثل : عدم إعتراف إتحاد الجامعات العالمية والآسيوية والإقليمية بتواقيع إدارات هذه الجامعات المطففة دون وجه حق .
رابعا : يجب على إتحاد نقابات أساتذة الجامعات والمعاهد العليا إعلان الإضراب العام الشامل للجم التطفيف والتحقير الذي يكيل بمكيالين غير نظيفين وغير مستقيمين .
خامسا : دعم السفارات في الدول العربية لمعادلة الشهادات العلمية ومناقشة الأمور على أعلى المستويات الأكاديمية والإدارية والسياسية .
سادسا : إدخال السلطة التشريعية على الخط وقيام النواب باستجواب المعنيين ، وملاحقة المتنكرين لغيرهم بحقوقهم العلمية التي دفعوا في تحقيقها الأموال الطائلة .
سابعا : شن حملات إعلامية منتظمة ومكثفة لردع هؤلاء وثنيهم عن ظلمهم لزملائهم الآخرين في الحرم الجامعي ، الذي يجب على الجميع احترامه بكل معنى الكلمة ، وعدم التنكر للآخرين ، وممارسة القمع الفكري وحظر حرية التعبير عن الرأي .
يقول الله العلي العظيم جل جلاله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) }( القرآن المجيد ، المائدة ) .

الفئات المستهدفة في التطفيف

يقول الله السميع العليم جل شأنه : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}( القرآن المبين ، الأنعام ) .
جميع الفئات الاجتماعية في المجتمع ، أي مجتمع ، مستهدفة في سياسة التطفيف ، ولا يمارس سياسة التطفيف إلا ذوي النفوس المريضة ، الذين يرغبون في سرقة جهد ووقت وأموال غيرهم ظلما وعدوانا ، ويستغفلون الآخرين ، ولديهم نقص نفسي ، وسادية وتلذذ في تعذيب الآخرين ، والانتقام من زملائهم الذين لا يماثلونهم الرأي والمكر والمكيدة ، ولا ينافقون لهم ، والزعم بالتوفير على المؤسسة ، علما بأنهم يكونون من المبذرين في نشاطات أخرى ، فيلجأون لتغطية نقصهم ، بسياسة التطفيف السلبية ، فيأكلون حقوق العباد ظلما وعدوانا ، والمضطهدين ينافقون لهم ويجاملونهم ويتربصون بهم الدوائر ، ويبقون يبلعون المر ، طيلة فترة العذاب النفسي والاجتماعي والحبس اللاداري الذي يمارسه غيرهم ضدهم ، والبعض ينتفض أمام هؤلاء الظالمين من الطغاة البغاة ، المستأسدين على ذوي الحاجة ، فينالون حقوقهم ، ويشنون حملات دعاية وإعلام وعلاقات عامة مكثفة ومبرمجة ناجحة فتعاطف معهم الناس ، ويهدأون من روعهم ، ويطالبونهم بالصبر والبعض ينصحهم بترك العمل وإعلان الإضراب وهكذا . وتعتبر فئة المقاومين للظلم بشتى صوره ، فئة مقاتلة من أجل الحرية والحق ، وتنال أمانيها ومطالبها في نهاية المطاف على استحياء أو بصورة علنية .
وعلى الإجمال ، تتركز الفئات المستهدفة في التطفيف في الشرائح الاجتماعية الآتية :
أولا : جميع الناس ، الذين لا يعرفون المكاييل والمقاييس ويجهلون مقاديرها ، فيخذون على حين غرة .
ثانيا : الفقراء والمحتاجين : الذين لا حول لهم ولا قوة ، فيميلون لقبول الأمر الواقع كما هو ، ويجعلون من أنفسهم تجارب للآخرين .
ثالثا : النساء : في التنكر لحقوقها ، وعدم إيلائها الاهتمام المناسب فتضطر شريحة كبيرة من النسوة للخضوع والخنوع لما يملى عليهن ، بدعاوى أن ليس باليد حيلة .
رابعا : الفئات الصغيرة : كالأطفال والأيتام .
خامسا : الفئات المتعلمة : وهي الفئات المغلوبة على أمرها ، من الأكاديميين والإداريين الضعفاء ، وليس من يساندهم أو ليس لديهم ظهر قوي يحميهم ، وهؤلاء كمن هو ساكت عن حقه مثله مثل الشيطان الأخرس الساكت عن الحق . ويخافون كل صيحة عليهم هم العدو ، ويتحاشون طردهم من عملهم ، لضعف إيمانهم بالله الرزاق ذو القوة المتين .
وأخير ، فإن المساواة والعدل والعدالة الاجتماعية ، والاحترام والإحترام المتبادل ، والتعاون الأخوي يجب أن يسود بين أبناء المجتمع الواحد ، سواء أكان مجتمعا عربيا أو إسلاميا أو إنسانيا عالميا ، وإلا لعمت الفوضى ، وتربصت الفئات الاجتماعية ببعضها البعض ، للاقتناص والقصاص ، والدهر كالدولاب ، يدور ولا يبقي أحدا على حاله ، لأن دوام الحال من المحال . فاتقوا جميعا وقولا قولا سديدا وردوا المظالم لأصحابها قبل فوات الأوان .
وورد في سنن أبي داود - (ج 12 / ص 472) أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ " .
والله ولي التوفيق . سلام قولا من رب رحيم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات: